رشق الغزال

نشر في 20-02-2012
آخر تحديث 20-02-2012 | 00:01
 فوزية شويش السالم الشعر يصبح ممتعاً وجميلاً أكثر حين نقرأ دواوين لشعراء نعرفهم ولا نعرفهم، يعني قريبين وبعيدين معقودين على طرف الوقت المغادر باستمرار على عجل، هنا يصبح الشعر لصاً قادراً على سرقة أرهف وأدق ما خُبئ في صناديقهم، ويكشف كل ما لم نعرفه عن دواخلهم وخفاياهم، يتركنا نتلصص على المخفي فيه من ضحكات منسية ومن وجع غاف في قراطيسه، ومن روح متسربلة بوهم أنها متخفية بعيدة عن الحس واللمس، الشعر وحده

كشاف نور مبهر قادر على غمر الشاعر بعري حتى النخاع.

ديوان «رشق الغزال» وأيضاً ديوان «ما يفوق الوصف» كشفا لي ما لم أعرفه عن تلك الصبية التي بقيت حبيسة إطار صورتها في ماض لم تكبر فيه، وبقيت في ذاكرتي فراشة تحوم بأجنحة الخجل، متوارية بحفيف صمتها الغامض وملتفة بظلال ليل حديقة تسرق نورها من إضاءة الشارع القريب.

في ليل الحديقة ذاك تعرف مجموعة من الكتاب الذين طاروا وحلقوا في ما بعد في سماء الإبداع والشهرة على صبية قدمتها الشاعرة المبدعة ميسون القاسمي التي كانت حينذاك رسامة في بداياتها الشعرية: أقدم لكم سوزان عليوان طالبة في الجامعة الأميركية وأيضاً تكتب شعر.

بقيت سوزان في ذاكرتي دائماً وأبداً حبيسة ذاك المشهد في ليل حديقة ساحر وصحبة منتقاة، وفراشة هفهفت في ما بعد في سماء إبداع خاصة بها ليست بجوار أحد ولا تشبه أي أحد.

التقينا بعد عمر وزمن طويل وأهدتني «رشق الغزال» وما يفوق الوصف بإهداء مرسوم بالروح وليس بالقلم وملفوف بشرائط ستان وفراشات ولوحات صغيرة لا تشبه إلا صاحبتها، وبصراحة لا أدري لم حضرت مقارنتها بي، فكل هذه الرهافة بستان شرائطها المعقودة والمشبوكة بخيوط فراشاتها وأناقة حس أنثى رهيب يُشير إلى شعرها وشاعريتها، فأين أنا من كل هذا الزخم الأنثوي الصاعق؟

أخجلتني من نفسي ومن خطي وبهدلة طريقتي في الإهداء وفوضويتي وكركبتي التي تنتقصها أنوثة برقة فياضة وأسلوب تعامل أنيق وشيك.

تلك هي سوزان عليوان التي يعكسها تماماً شعرها الذي تكتبه، شعر من برق صاف مكثف ومقطر من رحيق تجربة روح ترى الدنيا من عين لا يمتلكها غيرها أي أحد، الاختزال سر كتابتها: «النافذة نزهتها الوحيدة/ الأبواب احتمالات مفتوحة/ برأفة غصن على تراب/ وأتسع لأكثر من طريق/ يا طيور أطلقيني/ قلبك الذي ليس حافة/ القرب أيضاً جارح/ ثمة من انتحل روحي وجرحنا».

كتابة متوحدة ومتماهية مع الطبيعة بطقوسها وتقلباتها وسكينة منتهاها، كتابة تراقص أوراق النبتات والشجر، أخت للعصافير ولخفقة أجنحتها في المطر كتابة: «كالتي بين فأس وشجرة/ من زهر الليمون وتيجانه المداسة/ من خفة فراشة على قبر سحيق/ كل صباح أرتاده أصادق عصافيره الثرثارة».

كتابة ترسم الشعر، ورسم يكتب الشعر، وهذه خلطة سوزان السحرية التي ذابت فيها الفواصل وتماهى الشعر بالرسم، كل قصيدة لوحة متجسدة بذاتها، وكل مشهد قصيدة مكتنزة بحياتها: «الليل قطعة من القلق صافية، ولكل طائر شكل صليب/ حطب مدفأة، مقعد في مقهى على البحر، سرير وسط غرفة واسع ووحيد/ كرسيان، كوب واحد، رأسك إلى صدري، غريقين، ووحدنا خلاصنا».

ولكل قصص الحب مذاقاتها المختلفة وقصة حب سوزان أمتعت الشاعرة الساكنة بي، وتفاصيلها أشبع فضول الروائية الحشرية المتلصصة التي أخذت تلملم ما كان ينقص حكاية صبيتها تلك التي سجنتها في اطار سرية ليل محفوف بحديقة لأجد امرأة تعشق بأوجاع كل العاشقين: «العوسج على ضلوعي خفقة وجرس خافت/ بلا صخب أغادر صوري وأقفاصي/ العاشق إناء فارغ/ نختلف لهول ما نتشابه/ والافتتان يشترط بتر أصابعنا/ لك ما اخترت، من درب خلوة، وأطياف دخان، ولي درب التبانة، وصباره صغيرة، ترتق ما يتلفه الدهر، بين الحنايا أربيها/ لو نزوة لتجاوزناها بجرعة زائدة، لو لعنة أظننا تخطينا أمد العقوبة، لمللنا لو لعبة، لو مجرد رهان، لكننا الهوى، بلا أسباب سواه/ حيث تسيء فهمي وأتمادى، في هشيمي، في هبائي، في ألعاب البنفسج/ كم بكيت، كي يشيخ اسمي، كساع مسترسل على دراجة؟»

سوزان علوان تكتب الحب وترسمه بعمق تجربة وجودية ملتبسة بإحساس صوفي مدرك لماهية وجوده: «كي أنتشي بعودة جسد، وليست الروح من حجر، لأنحتها، وأحرر حصانا، إلى صهيله، داخل الصخرة العملاقة أصغي، العاشق إناء فارغ».

 

back to top