لي حفنةٌ من أصدقاء إنكليز، شعراء في معظمهم. بين فترات متباعدة نتصل هاتفياً، ويذكّر بعضنا بعضاً بضرورة أن نلتقي، ونتحدث. وعادة ما يتم اللقاء في مقهى، أو على وجبة غداء في مطعم عربي: عراقي، سوري أو لبناني. عراقي بسبب رغبتي وحدها. لأن رؤوس الجميع عادة ما تنشغل بالفلافل والحمص والتبّولة.

Ad

في الدقائق الأولى من المهاتفة، عادة ما أسال: «يجب أن نلتقي بالتأكيد. ولكن قل لي متى وأنا جاهز؟»وعادة ما تلي ذلك الإجابة التالية: «آه. أعطني دقيقة لأراجع دفتر المواعيد». أو دفتر اليوميات The diary. وبعد صمت يستغرق دقائق، يعود صوت الصديق بالتالي: «حسناً. هل بإمكان اللقاء أن يتم في آخر يوم من الأسبوع الثاني من الشهر القادم؟» هذا، في الوقت الذي تتم المهاتفة فيه في مطلع الشهر. أبتسم، وأعلق: «يا عزيزي. أنا معتاد على مواعيد دون «دايَري». يتصل بي الصديق العربي، فأقول: نعم، ولمَ لا؟ سنلتقي اليوم، الساعة السادسة مساءً. استناداً ليومياتك أحتاج أن تذكرني قبل يوم من الموعد.

قبل أيام دعت شاعرة مجموعة أصدقاء، أنا من بينهم، بواسطة الإيميل: «على العشاء. 29 سبتمبر، الساعة السابعة. ما رأيكم؟». بعد ساعات جاءني إيميل ثان منها: «آن لا تستطيع المجيء. سنؤجل العشاء إلى يوم 12 أكتوبر. ما رأيكم؟». وكان مع الرسالة ملحقان بمواصفات الكيك الذي ستعده بيدها.

قد يبدو هذا في أعين كثيرين دليلاً على مقدار الحرص على الوقت. بالنسبة لي لا أرى في هذا غيرالسطوة الجبارة للنظام System على مجمل الحياة الغربية. على الزمان الغربي، والعمل الغربي، والإنسان الغربي عقلاً وروحاً. بدأ النظام بفعل حاجة الحضارة الغربية له، وحاجة الإنسان المتحضر. ومع نمو شبكة الحياة، صار النظام يستقل عن هذه الحاجة. صار ينمو منفرداً، حيث لا خيار. الحياة قد تتفكك إذا ما أفلت زمامها من يده. صارت قبضته حديدية، ولكنه حديد غير مرئي. صار الانسان يولد، ينمو ويموت داخل هذه القبضة. «الدايّري» ليست إلا وثيقة إثبات لهذا الاستسلام للنظام.

الأصدقاء وأنا ننتسب للجيل ذاته. عملنا المعيشي لا يستغرق إلا ساعات معدود من الأسبوع. البقية نصرفها للقراءة والكتابة. ولعلي أفوقهم في الحاجة للوقت، لأني إلى جانب القراءة والكتابة أنصرف أحيانا للرسم، وأحياناً كثيرة للموسيقى. ومع ذلك لا أشعر أني أحتاج إلى «دايَري». نعم، عدم حاجتي لها لا ينطوي على الفضائل وحدها. فأنا دونها معرّضٌ للنسيان، وللغفلة، والاستسلام بيسر إلى آفة كسلي الشرقي. ولكني بحكم المولد والنشأة ما زلت أشعر بالزمن الشرقي يتحرك بطيئاً في شراييني. الزمن الغربي المتسارع يأخذني من ياقتي أحيانا. ولكن ثمة مناعة.

الذي يحدث مع نظام الزمن الغربي الخاطف أنه، بحكم تقسيم العمل، يوزع دقائق الكائن إلى مراحل تنطوي على مهمات حياته. لا فرق بين موعد طبيب، وموعد عمل شاي وحليب بعد الظهر. لا فرق بين موعد سفر إلى الخارج، وبين موعد شراء علبة قهوة في يوم التنزيلات. حتى تصبح هذه المواعيد ضرورات متساوية. وحتى تصبح هذه الضروراتُ طبيعةً في دم الكائن. ولذا تمتلئ «الدايَري»

إلى الحافة بالمواعيد. وحين نريد أن نلتقي يتصفح صديقي الشاعر صفحات دفتر مواعيده حائراً، إلى أن يقع على خانة فارغة تيسر له مهمة اللقاء بعد أسبوعين أو ثلاثة في مقهى لشرب الشاي، والتحدث.

اعتدت هذا الحديث مع الجميع. كنت أقول دائماً إن الذي ينجز مواعيدهم معي هو النظام، وليسوا هم. هي رزنامة الجيب الصغيرة. ولو أتيح لهم أن يلقوا بها جانباً إلى حين، لرأوا كيف ستتبخر جملةُ مواعيد لا قيمة لها منها. مواعيد شراء القهوة، أو اصطحاب الكلب إلى الحديقة، أو أكل كيكة ما بعد الظهيرة... الخ. لأن هذه المهمات الصغيرة يمكن أن تتم بلا مواعيد محددة. وحتى لو اضطربت أوقاتها، أو طوتها الغفلة فلن تنقلب حياة المرء رأساً على عقب. بل على العكس. ستمنح عناصر من دراما حياة خارجية. هذه الدراما أسلم من الدراما الداخلية السوداء التي يمليها

الـ System على الكيان الانساني دون رحمة.