إذا أراد العرب يوماً أن يقيّموا علاقاتهم التاريخية والحالية مع روسيا فإنهم سيفاجأون بكمِّ النفاق والخداع والضرر الذي ألحقه الروس بالعالم العربي والإسلامي، والذي استمر في التاريخ المعاصر ضرره في الدولتين الحديثتين الروسيتين في ظل الحكم البلشفي الشيوعي والحكم الحالي ذي الشكل الديمقراطي والمضمون «المافيوي». وها هي روسيا تكمل تعميق جراحها في العالم العربي عبر موقفيها المخزيين في ليبيا وسورية، وترقص على وقع صراخ مجازر الشام وتزيد من شدة قرع طبول الحرب الداخلية لنظام دمشق ضد شعبه عبر توفير الحماية والدعم له في المنظمات الدولية.

Ad

روسيا تلك هي خزان المهاجرين اليهود الأكبر للدولة الصهيونية، والداعم والمعترف الأول بالدولة العبرية في أربعينيات القرن الماضي في الأمم المتحدة، وموسكو الشيوعية هي التي أعيت الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لتمنحه أسلحة تكافئ التسليح الغربي لإسرائيل، وهي التي تركت السادات والشعب المصري ليواجه مصيره بعد أن أعلن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون أثناء حرب يوم الغفران في أكتوبر 1973 عن جسر جوي لحماية إسرائيل، بينما الروس كانوا يتلكأون في تعويض مصر عن مخزون صواريخ الدفاع الجوي (سام) الذي استُنفِد معظمه في القتال.

وروسيا أيضاً كانت، ومازالت، الراعي الأكبر للأنظمة الشمولية والأشد دكتاتورية وقمعاً في العالم العربي والتي لم تطلب منها يوماً مراعاة حقوق شعوبها أو على الأقل التخفيف من ظلمها لها، كما تفعل واشنطن والغرب مع حلفائهما في المنطقة، كما أن المدارس الاستخباراتية الروسية على أراضيها وفي ألمانيا الشرقية هي مواقع التدريب الرئيسية للأجهزة الأمنية الدموية العربية، كما أن عدوانية روسيا ورغباتها التوسعية هي التي وفرت التبرير للحركات الإسلامية المتطرفة لتتحول إلى تنظيمات مسلحة ذات خبرات عسكرية من خلال غزوها لأفغانستان في عام 1980، وهي التي سعت، خلال مرحلة الدولة الشيوعية، إلى محو الهوية الإسلامية عن دول آسيا الوسطى، ومارست الفظائع تجاه الشعب الشيشاني، والتغطية على مذابح الصرب ضد المسلمين في البلقان، بينما تمارس نفاقاً منذ عشرات السنين في القضية الفلسطينية، رغم أن إحدى مسلَّمات السياسة الروسية التاريخية تَعتبر وجود إسرائيل وأمنها خطاً أحمرَ لا يمكن تجاوزه أو حتى الاقتراب منه.

روسيا في الواقع هي الصديق المدمر للعرب والمسلمين، والذي كانت خدماته تصرف دائماً، ومازالت، لمصلحة طرف واحد هو نفسه، فلم يكن له فائدة لمصلحة قضية العرب الفلسطينية سوى البيانات الجوفاء والمواقف الخجولة في الأمم المتحدة التي تنتهي لمصلحة تل أبيب دائماً، أما من جهة حقوق الشعوب العربية في الديمقراطية والحرية فإن موسكو ضدها على طول الخط، بل إن الطامة الكبرى أن الروس يوفرون الحماية والغطاء للمذابح التي تقع ضد الشعوب العربية من قِبَل أنظمتها القمعية، وهو أردى وأبشع الأدوار على المستويين الأخلاقي والإنساني الذي يمارسونه مع الشعوب العربية، كما أنه لا يوجد لروسيا أية روابط اقتصادية مهمة تُذكَر مع العالم العربي، وروسيا هي التي وضعت القنبلة البيئية الموقوتة المتمثلة في مفاعل بوشهر النووي في الخليج العربي، بل إن موسكو كانت تبيع وتشتري مواقفها إزاء القضايا العربية مع الغرب بصفقات دائمة ومتكررة خلال الحرب الباردة، وتستمر الآن في مرحلة «روسيا الشايلوكية» التي تبحث عن مصالحها الاقتصادية دون أية معايير إنسانية أو أخلاقية، ومن يفعل كل ذلك بنا فهو يدمرنا دماراً شاملاً، لأنه يدمرنا من الداخل والخارج.

ولذلك فإنه ليس مستغرباً الموقف الروسي تجاه الفاجعة الإنسانية التي يواجهها الشعب السوري الشقيق، ولكنه الموقف الذي مثَّل القشة الروسية التي قصمت ظهر ما تبقى لموسكو من علاقة مع الشعوب العربية، التي يجب أن تتخذ عبر مؤسساتها المدنية والشعبية مواقف جدية تجاه موسكو بالمقاطعة، وتقديم رسائل الاحتجاج والاستنكار لمواقفها المخزية عبر سفاراتها وممثلياتها في جميع أرجاء الوطن العربي والعالم، بأن الروس لن يشتروا قاعدة بحرية في سورية بدماء آلاف السوريين ومعاناتهم وظلمهم، كما أنه قد آن الأوان أن تكشف حقائق العلاقات الملتبسة بين العرب والمسلمين وروسيا التي دفعنا نحن أثماناً باهظة لها من دمائنا ومليارات دولارات صفقات الأسلحة الروسية «الخردة» وغير الكفؤة إلى دول المواجهة خلال الستين سنة الماضية، ولكي نزيل اللبس والاستغلال السيئ للروس لتلك العلاقة.