البرامج الحوارية والإسفاف!
هناك ظن لدى بعض أصحاب القنوات الفضائية، بأن البرامج الأسهل في الإعداد، والأكثر مشاهدة في ذات الوقت، هي البرامج الحوارية، لذلك صاروا يملؤون قنواتهم بهذا النوع من البرامج طوال فترات البث، وهذا الظن، وهو ظن غير سليم طبعا في اعتقادي، وهذا الاستخفاف في النظر إليها، جعلهم يتساهلون بالتبعية في اختياراتهم لمقدميها، من باب أن الأمر لن يتطلب سوى شخص، لا بأس به شكلا، وقادر في ذات الوقت على توجيه الأسئلة المعدة مسبقا للضيوف، والأهم من ذلك محاصرتهم ومقاطعتهم واستفزازهم طوال اللقاء، حتى يكون للبرنامج، في ظنهم، نصيبه المقبول من نسبة المشاهدة، وكان الله غفورا رحيما. نتيجة لهذا، ظهرت عندنا فئة من مقدمي البرامج الحوارية، صار همها الأوحد هو التباري فيما بينها فيمن يحاصر ضيوفه ويقاطعهم ويستفزهم أكثر، ظنا من هذه الفئة أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأكثر جاذبية والضامن للشهرة! لكن أهل الإعلام الحقيقي، وكذلك المشاهدون الذين يمتلكون ذوقا سليما، يدركون أن هذا الأسلوب الذي ساد في الغالب وللأسف، هو الأبعد عن كل موضوعية وأنه مجافٍ تماما لمهنية الإعلام، بل إنه أقرب ما يكون إلى الإسفاف، إن لم يكن هو الإسفاف بعينه. منذ أيام، مثلا، شاهدت مقطع فيديو لمقدم برنامج جديد استمر في مقاطعة ضيفته ومحاصرتها من خلال تكرار الأسئلة بالرغم من إجابتها عنها، حتى انتهى بها الأمر إلى الخروج وترك البرنامج على الهواء مباشرة، وهو ما عده مقدم البرنامج انتصارا، في حين أنه نقيض ذلك تماما. نعم، أرفض فكرة أن يكون مقدم البرنامج الحواري مستسلما تمام الاستسلام لإجابات الضيف، وأن يكون كآلة تسجيل باردة لا تخرج عن قائمة الأسئلة المجهزة مسبقا، لكن الذائقة تنفر في ذات الوقت من هذا الانحدار الواضح، وهذا التجريح الفاضح الذي صرنا نراه في هذه البرامج الحوارية. إن المقدم الناجح هو ذاك الذي يستنطق ضيفه عبر طرح سؤال ذكي يضيف شيئا للمشاهدين، وهو الذي يبني سؤاله الثاني على إجابة الضيف، فإما أن ينطلق به إلى نقطة أخرى أو يعيده إلى ذات النقطة لمزيد من الاستيضاح أو حتى ليظهر لمشاهديه بذكاء أن الضيف تهرب من الإجابة أو عجز عنها، دون الحاجة لمقاطعة هذا الضيف بحدة أو استفزاز، ومعلوم أن هذه القدرة لا تتاح لأي مقدم ما لم يكن متدربا تدريبا مكثفا على هذه الصنعة، وما لم يكن أيضا قد اطلع وبتعمق على مادة اللقاء ومحاور الأسئلة، وما نراه اليوم بعيد كل البعد عن هذا. من الناحية الأخرى، فإن هناك قدرا كبيرا من الملامة يقع على جانب الضيف الذي يقبل الظهور في مثل هذه البرامج الحوارية الضعيفة المستوى، فهو من وافق أن يظهر مع هذه الشاكلة من مقدمي البرامج، وقد كان يتحتم عليه أن يكون قد اطلع على نماذج لحلقات من البرنامج حتى يعرف وتيرته، ويدرك مستوى مقدمه فيعتذر منه إن رأى ذلك، وهذا حقه. لكنني وللأمانة مازلت لا أدري إن كان لمثل هذا الأمر علاج، فبرامج القنوات الفضائية، ومهما بلغت درجة سوئها، تظل كالبضائع المعروضة في سوق مفتوح، ومن شاء فليتفرج ومن شاء فلينصرف، وبالتالي فالاعتقاد بأن الجمهور سيفعل شيئا، هو اعتقاد زائف، كما أن تعليق الأمل على أصحاب القنوات الفضائية لأن يحرصوا على اختيار الجيد، أيضا في غير محله، فالمسؤولية الإعلامية ليست في حساباتهم، هذا إن كانوا يقرون بفكرتها أصلا. على كل حال، يظل هذا المقال محاولة لتسليط الضوء على هذه الفكرة، لعلها تنفع البعض.