حكم عالمي بلا زعامة
اليوم، يُهدَر قدر عظيم من رأس المال السياسي العالمي على المواءمة بين سياسات إفقار الذات، ولا يُنفَق القدر الكافي من رأس المال هذا على سياسات استغلال الجيران (مثل الاختلالات في توازن الاقتصاد الكلي)، ولن تفيدنا الجهود المفروضة في الطموح والموجهة في غير محلها فيما يتصل بالحكم العالمي في وقت بات من المحتم أن يظل المعروض من الزعامة العالمية والتعاون العالمي محدودا.
إن الاقتصاد العالمي يدخل مرحلة جديدة، حيث يصبح تحقيق التعاون العالمي أمراً متزايد الصعوبة، فلم يعد بوسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ظل ارتفاع مستويات الديون وانخفاض معدلات النمو، وبالتالي انشغالهما بهموم محلية، وضع القواعد العالمية وتوقع امتثال الآخرين لها.وما أدى إلى تفاقم هذا الاتجاه أن القوى الصاعدة مثل الصين والهند تقيم وزناً عظيماً للسيادة الوطنية ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهذا من شأنه أن يجعل هذه البلدان غير راغبة في الامتثال للقواعد الدولية (أو المطالبة بالتزام الآخرين بهذه القواعد)، وبالتالي فهي من غير المرجح أن تستثمر في المؤسسات التعددية، كما فعلت الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.ونتيجة لهذا، فإن قوام الزعامة والتعاون العالمي سوف يظل محدودا، الأمر الذي يتطلب استجابة مدروسة بعناية في حكم الاقتصاد العالمي، أو على وجه التحديد، الاستعانة بمجموعة أكثر رهافة من القواعد التي تعترف بتنوع الظروف الوطنية وتطالب باستقلال السياسات، ولكن المناقشات التي تدور في إطار مجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية، وغير ذلك من المحافل المتعددة الأطراف تزاول عملها وكأن الدواء الصحيح هو المزيد من ذات الداء، المزيد من القواعد وتدابير إيجاد التجانس، وفرض المزيد من الانضباط على السياسات الوطنية.وبالعودة إلى الأساسيات، فإن مبدأ "تبعية السلطة المركزية" يوفر السبيل الصحيح للتفكير في قضايا الحكم العالمي، فهو ينبئنا بأي الأنواع من السياسات لابد أن يتم تنسيقه أو مجانسته عالميا، وأيها لابد أن يترك إلى حد كبير لآليات اتخاذ القرار على المستوى المحلي، ويعين هذا المبدأ الحدود بين المناطق التي نحتاج فيها إلى حوكمة عالمية مكثفة وبين تلك التي تكفي فيها الاستعانة بطبقة رقيقة من القواعد العالمية.تأتي السياسات الاقتصادية في نحو أربعة أشكال مختلفة، فعند أحد الطرفين هناك السياسات المحلية التي لا تمتد على الإطلاق (أو تمتد بشكل ضئيل للغاية) عبر الحدود الوطنية، فسياسات التعليم، على سبيل المثال، لا تتطلب اتفاقاً دولياً ومن الممكن أن تترك بأمان لصناع القرار السياسي المحليين.وعلى الطرف الآخر هناك السياسات التي تشتمل على "منافع مشتركة عالمية": حيث لا تقرر النتيجة بالنسبة إلى كل دولة بواسطة السياسات المحلية، بل بواسطة (مجموع) سياسات الدول الأخرى. وهنا تمثل قضية انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري العالمي حالة شديدة الوضوح، ففي نطاق مثل هذه السياسات هناك حجة قوية لمصلحة تأسيس قواعد عالمية ملزمة، وذلك لأن كل دولة لديها مصلحة لإهمال حصتها في صيانة المنافع المشتركة العالمية إذا تُرِكَت لحال سبيلها، والفشل في التوصل إلى اتفاق عالمي من شأنه في هذه الحالة أن يحكم على كل الأطراف بكارثة جماعية.وبين طرفي النقيض، هناك نوعان آخران من السياسات التي تخلق الامتداد، ولكنها تحتاج إلى معاملة مختلفة، فأولا، هناك سياسات "استغلال الجيران"، حيث تستحل دولة ما منفعة اقتصادية على حساب دول أخرى. على سبيل المثال، يعمل زعماؤها على تقييد المعروض من الموارد الطبيعية من أجل دفع أسعارها إلى الارتفاع في الأسواق العالمية، أو ضغط السياسات التجارية البحتة في هيئة فوائض تجارية ضخمة، وخاصة في وجود البطالة والقدرة الفائضة.ولأن سياسات استغلال الجيران تحقق المنافع من خلال فرض تكاليف على آخرين، فلابد من تنظيمها أيضاً على المستوى الدولي. وتُعَد هذه الحجة الأقوى لإخضاع سياسات العملة الصينية أو الاختلالات في توازن الاقتصاد الكلي مثل الفوائض التجارية لدى ألمانيا لقدر أعظم من الانضباط العالمي مقارنة بمستواه الحالي.ولابد من التمييز بين سياسات استغلال الجيران وما يمكننا أن نطلق عليه سياسات "إفقار الذات"، والتي يتحمل تكاليفها الداخل في الأساس، ولو أنها قد تؤثر في الآخرين أيضا. ولنتأمل هنا مسألة إعانات الدعم الزراعية، أو الحظر المفروض على الكائنات المعدلة وراثيا، أو التنظيمات المالية المتراخية، وفي حين أن هذه السياسات قد تفرض تكاليف على دول أخرى، فإنها تستخدم ليس لانتزاع بعض المزايا منها، بل لأن دوافع سياسة داخلية أخرى- مثل المخاوف الخاصة بالتوزيع أو الإدارة أو الصحة العامة- تكون لها الغَلَبة على هدف الكفاءة الاقتصادية.والواقع أن الحجة المؤيدة للانضباط العالمي أضعف قليلاً فيما يتصل بسياسات إفقار الذات، فهي ليست وظيفة "المجتمع العالمي" على أي حال أن يخبر الدول الفردية كيف ينبغي لها أن تزن بين الأهداف المتعارضة، ولا يُعَد فرض التكاليف على دول أخرى في حد ذاته سبباً للتنظيم العالمي. (الواقع أن الديمقراطيات نادراً ما تشتكي عندما يضر تحرير دولة ما لتجارتها بمصالح المنافسين). وينبغي للديمقراطيات بشكل خاص أن يُسمَح لها بارتكاب "أخطاء" خاصة بها.بطبيعة الحال، ليس هناك ما قد يضمن أن تعكس السياسات الداخلية المطالب الاجتماعية بدقة؛ وحتى الديمقراطيات كثيراً ما تقع تحت أسر المصالح الخاصة، لذا فإن الحجة المؤيدة لوضع قواعد عالمية تأخذ هيئة مختلفة عن سياسات إفقار الذات، وتدعو إلى متطلبات إجرائية مصممة لتحسين نوعية وضع السياسات المحلية. ولا تتقيد النتيجة النهائية بالمعايير العالمية المتعلقة بالشفافية، والتمثيل العريض، والمساءلة، واستخدام الدلائل التجريبية على سبيل المثال.إن الأنماط المختلفة من السياسات تتطلب استجابات مختلفة على المستوى العالمي.واليوم، يُهدَر قدر عظيم من رأس المال السياسي العالمي على المواءمة بين سياسات إفقار الذات (وخاصة في مجالات التجارة والتنظيم المالي)، ولا يُنفَق القدر الكافي من رأس المال هذا على سياسات استغلال الجيران (مثل الاختلالات في توازن الاقتصاد الكلي)، ولن تفيدنا الجهود المفروضة في الطموح والموجهة في غير محلها فيما يتصل بالحكم العالمي في وقت بات من المحتم أن يظل المعروض من الزعامة العالمية والتعاون العالمي محدودا.* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "مفارقة العولمة: الديمقراطية ومستقبل الاقتصاد العالمي".«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»