الخلل في الشعوب، والإصلاح يبدأ منها ليعود عليها، والثورة على الطغاة لابد أن يصحبها ثورات أخرى أكثر أهمية منها، ثورة على التعليم المتخلف، ثورة على الأخلاق الفاسدة والمنحطة، ثورة على التعامل الفوقي بين الحاكم والمحكوم، ثورة على العيش في الماضي وتراثه المنغلق، ثورة على أعداء الحريات وأصحاب الرأي الواحد المفروض على الجميع.

Ad

جميل أن تستيقظ الشعوب العربية من سباتها العميق لتثور على طغاتها الذين عاثوا في الأرض فسادا، جميل أن تنتفض لكرامتها وحقها في العيش الكريم والحرية والعدالة، جميل أن تصرخ بعد عقود من الصمت في وجه الجبابرة بألا مزيد من الظلم والقهر والمهانة بعد اليوم، جميل أن تحاسب كل من ظنها قطيعا بليدا من الأغنام لا يثور على من يذبحه كل يوم بسكين التسلط والطغيان، جميل كل هذا وأكثر من رائع!

لكن الأجمل هو ألا تضيع هذه الفرصة التاريخية للتحول الإيحابي وأن تستفيد بشكل فعلي وحقيقي من هذه الثورات عبر توجيهها نحو المسار الصحيح الذي يحقق الآمال والطموحات، لا أن تسير في نفس المسار السابق وتكرار نفس الأخطاء التي أدت إلى ما كانت فيه قبل هذا العام المبارك.

فمن الملاحظ أن كثيرا من الثائرين قد اختزلوا فلسفة الثورة في التخلص فقط من الحاكم الظالم واستبداله بآخر، أي أن الأمر تحول دون وعي أو شعور إلى ثأر شخصي بين الشعب وحاكمه، متصورين أن الأمور كلها ستنصلح بعد الخلاص منه ليعيش الشعب "البريء" بعدها في سعادة وهناء وعز ما بعده عز!

وهو خطأ كبير وفادح، فالثورة الحقيقية ليست على الدكتاتور وزمرته الفاسدة فقط، إنما على المفاهيم والسلوكيات التي صنعت هذا الدكتاتور وتلك الزمرة، فالشعوب عبر ممارساتها وأخلاقياتها هي من يصنع الطغاة والجبابرة حين يشيع فيها الكذب والجهل والنفاق والتزلف لكل جالس على كرسي الحكم، فهي من يفسده وينفخه النفخة الكاذبة التي تجعله يحسب نفسه شيئا ذا قيمة وهو أغبي وأجهل وأجن الخلق- القذافي مثالا- لتصل به النرجسية بعد فترة من الزمن لأن يرى نفسه إلهاً على هيئة بشر، ويتحول الشعب "المنافق" في نظره إلى مجموعة من الحشرات يدوسها بحذائه متى شاء دون مساءلة أو اعتراض من أحد، فهو ربهم الأعلى الذي يحيي ويميت منهم من يشاء، وإن أراد أمرا بهم قال له: كن... فيكون عبر زبانيته وجلاديه!

الخلل إذن في الشعوب، والإصلاح يبدأ منها ليعود عليها، والثورة على الطغاة لابد أن يصحبها ثورات أخرى أكثر أهمية منها، ثورة على التعليم المتخلف، ثورة على الأخلاق الفاسدة والمنحطة، ثورة على التعامل الفوقي بين الحاكم والمحكوم، ثورة على العيش في الماضي وتراثه المنغلق، ثورة على أعداء الحريات وأصحاب الرأي الواحد المفروض على الجميع، ثورة على المجتمع الأبوي الذي يضع السلطة دون حدود في يد الزعيم، ثورة على النفاق والرشوة والمحسوبية، ثورة على التعصب القبلي والديني الذي يلعب على وتره الطغاة، كل هذه الثورات وغيرها هي ما يجعل التغيير ممكنا وإيجابيا وحقيقيا، لا شكليا أو سطحيا أو مصطنعا!

ولن يحدث كل هذا ما لم يتحول الغضب على الدكتاتور إلى غضب على مسببات وجوده ومعالجتها واحدة واحدة؛ لكي لا يكون التغيير في الوجوه والأسماء فقط؛ لنحصل بعدها على دكتاتور آخر أسوأ من سابقه، وهو أمر حدث من قبل مرات مع شعوب تثور اليوم على من ثائر سابق خلصها من دكتاتور أسبق منه!

والطامة الكبرى أن تتحول هذه الشعوب بعد الجهد والعناء ودماء الشهداء من دكتاتورية الفرد إلى دكتاتورية الكهنوت الديني دون وعي منها، وهو الاحتمال الأكبر الذي ينتظر عددا منها، والحلم الذي يسيل لعاب الأحزاب الدينية من أجله وتنتظر حدوثه بفارغ الصبر... فاحذروا منهم!