عندما يفوز الحزب الشيوعي بالمرتبة الثانية في الانتخابات الروسية الأخيرة بعد حزب فلاديمير بوتين وشريكه ديمتري ميدفيديف، رغم كل ما قيل عن عمليات تزوير على غرار ما يجري في دول منظومة العالم الثالث، فإن هذا يعني أن المواطن الروسي الذي كان قد بنى آمالاً عريضة على المستقبل الذي ظن أنه سيكون زاهراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونظام الحزب الواحد ومكتبه السياسي قد أصيب بالإحباط بعد نحو عشرين عاماً من الانتظار، وأنه بعد خيبة الأمل بالحاضر بات يحنّ إلى الماضي وإلى حكم «الرفاق» الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أبطالاً من أجل وطنهم الاشتراكي.

Ad

لا شك في أن روسيا بعد مرحلة بوريس يلتسين التي شهدت فيها الدولة مرحلة انهيار لا مثيل لها قد استعادت بعض تماسكها، ولا شك في أن هذه الدولة قد استردت بعض وضعية الاتحاد السوفياتي على الصعيد الدولي، لكن المشكلة التي بدأت تخيف الناس هناك هي أن حكم الحزب الواحد والقائد الأوحد قد عادت مجدداً من خلال لعبة التناوب على موقعي الرئاسة ورئاسة الوزراء بين بوتين وميدفيديف، ولكن بدون ألق بعض القادة الشيوعيين ومن بينهم بل في مقدمتهم أندريه غروميكو الذي قاد الدبلوماسية السوفياتية الخارجية أيام صراع المعسكرات والحرب الباردة والتهديدات المتبادلة بالصواريخ العابرة للقارات بين الشرق والغرب بكفاءة عالية كان يعترف بها حتى رؤساء الولايات المتحدة الأميركية.

ولعل ما تجب الإشارة إليه، ونحن في صدد الحديث عن هذا الأمر، أنه إذا كان بوتين من خلال تبنيه لبطش النظام السوري ضد شعبه يريد استعادة بعض مواقف الاتحاد السوفياتي في اللعبة الدولية فإن عليه أولاً الذهاب إلى قبر ليونيد بريجينيف وأيضاً إلى قبر جوزيف ستالين ليعتذر لهما عمَّا كان فعله ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين وعمَّا فعله هو بعد أن استكمل عملية تقزيم الحزب الشيوعي وإضعافه حتى حدود الزوال والتلاشي.

إنه لا يمكن تفسير هذا الإنجاز الذي حققه الحزب الشيوعي في الانتخابات الروسية الأخيرة، التي قيل حول عدم شفافيتها كلام كثير، إلا أن المواطن الروسي بدأ لا يطيق هذا الحاضر وأنه غدا يحن إلى الماضي، ومثل هذا ينطبق على بعض ثورات الربيع العربي التي أسقطت الماضي، لكنها أغرقت الحاضر في الفوضى وعدم الاستقرار وجعلت قطاعات واسعة من الناس «الغَلابة» الذين تضرروا بلقمة عيشهم يحنون إلى هذا الماضي الذي لم تمر عليه سنة واحدة ويتمنون لو أنه يعود بكل سيئاته وبكل قبضته الثقيلة.

إن الإنسان العادي، الذي حلَّق بآماله إلى السماوات العليا وهو يتابع ما كان يجري في ميدان التحرير وفي شارع الحبيب بورقيبة في تونس، لا يملك ترف التخلي عن «كدْحه» اليومي من الفجر إلى النجر ليبحث في قوانين الثورات، وليعرف أن الثورة كالولادة لا بد من أن ترافقها أوجاع كثيرة، وأنه حتى تفرح الأم برؤية طفلها بين يديها لا بد من أن تعاني آلاماً كثيرة مبرحة.

ثم إن الإنسان العادي، الذي صفق لكل هذه الثورات وعلَّق آمالاً كبيرة عليها وحلم بأيام مقبلة مزهرة، لا يعرف أن هذه الثورات، إنْ ليس كلها فبعضها على الأقل، قد انفجرت بدون قائد ملهم وبلا حزب أوحد ولا خارطة طريق ولا تصور مسبق، وأن الذين فجروها هم شباب بلا تجارب قد تلاقوا على شاشات الـ«فيس بوك» والـ«تويتر»، وأن سلاحهم كان الجرأة والذهاب إلى ميادين وساحات وشوارع التظاهر والاحتجاج، وأنهم رفعوا شعارات إسقاط الأنظمة، لكنهم لم يحددوا مسبقاً طبيعة وأشكال الأنظمة التي ينشدونها وبالتفصيل فكانت النتيجة كل هذه الإرباكات التي غدت واضحة ومعروفة.