خيارات مبارك

نشر في 07-08-2011 | 22:01
آخر تحديث 07-08-2011 | 22:01
No Image Caption
 ياسر عبد العزيز "أفندم... أنا موجود"، ثلاث كلمات نطقها مبارك، في ما كان مستلقياً على سرير، وقابعاً في قفص، يستمع إلى اتهامات الادعاء، التي يمكن في حال ثبوتها، كلها أو بعضها، أن تقوده إلى حبل المشنقة.

ثلاث كلمات بسيطة، لكنها مثلت تحولاً جوهرياً في تاريخ مصر والمنطقة، بحيث يمكن القول بكثير من الثقة إنها شكلت خطاً فاصلاً بين عصرين، وسياستين، وثقافتين، وإنها أنهت عهد الفرعونية السياسية، وكتبت نهاية الطغيان في البلد الذي طالما ألّه حكامه، وأنزلهم منازل القداسة، على مدى آلاف السنين.

كان مبارك قابعاً في قفصه بلا حول ولا قوة، يوجه نظرات زائغة إلى سقف القاعة، في ما تفترسه عدسات الكاميرات، فاضحة عجزه وضعفه وامتهانه وقلة حيلته، بعد ثلاثة عقود سُخرت خلالها لتمجيده وإنزاله منازل العظمة والكبرياء.

منذ شاهد العالم هذا المشهد التاريخي، حيث كان "الفرعون في القفص"، لأول مرة منذ أكثر من خمسة آلاف عام، لم يتوقف الحديث عن مغزى هذا التطور ودلالاته، ولم ينقطع الجدل حول أسبابه وتداعياته، ولم يهدأ الانقسام حول شرعيته وأخلاقيته، ولم تفتر الحماسة لاستعادته، وتقصي تفصيلاته، وتبادل الأحاديث عنه.

يستحق مشهد "فرعون في القفص" هذا الاهتمام الكبير؛ إذ عبرت مصر خلاله خطاً فاصلاً بين دولة الاستبداد ودولة القانون، وحققت ثورة 25 يناير به أحد أهم مطالبها، وهدأت احتقانات أهالي الشهداء والثوار، وتراجعت الشكوك في أداء السلطة العسكرية الانتقالية، وانتعش الأمل في إمكانية تخطي العثرات الراهنة التي تعوق الثورة وتشتت طلائعها، وأظهرت مصر قدرتها مرة أخرى على إلهام محيطها، وقيادة المنطقة إلى فصل جديد في الحكم والسياسة، يستند إلى قيم العدل والمساواة والقدرة على مساءلة الحاكم وإخضاعه للقانون.

وفي خضم ذلك الزخم العارم الذي أحاط بالمشهد وخلب ألباب المتابعين له داخل مصر وخارجها، خرجت آلاف المقالات والتحليلات والتعليقات التي استهدفت تشريحه وقراءة ما ينطوي عليه من تفصيلات ومعان ودلالات، واجتهد كثيرون في تحليل أسبابه واستشراف تطوراته، لكن أحداً لم يهتم كثيراً بمحاولة قراءة ما كان يدور بعقل مبارك في تلك الساعات التي أمضاها في القفص.

يبدو عنوان هذا المقال "خيارات مبارك" غير مألوف بعض الشيء في هذا التوقيت بالذات. إذ كيف يمكن لرجل في الثالثة والثمانين من عمره، منهك ومريض ومحبوس، يجر إلى قفص اتهام على سرير المرض، بعد ثورة شعبية أبهرت العالم بـ"نبلها وتحضرها"، متهماً بالقتل والسرقة في قضايا جنائية جدية، وبالفساد السياسي في حكم لا يستطيع أكثر خلصائه الدفاع عنه بسهولة، وبرفقته نجلاه الوحيدان متورطين في جرائم مماثلة، وبجانبه أركان شرطته، متهمين بارتكاب جرائم أثناء دفاعهم عن سلطته، كيف يمكن لمثل هذا الرجل أن يكون لديه خيارات، سوى انتظار الحكم، ثم طلب الرحمة.

ثمة ما يرجح أن لمبارك خيارات بالفعل، بل ثمة ما يشير إلى أن لديه "أوراقاً" قد يحاول باستخدامها تليين قواعد اللعبة، نحو استعادة حظوظه في خروج آمن في أفضل تقدير، أو الإضرار بموقف مناوئيه على طريقة "عليّ وعلى أعدائي" في أسوأ الأحوال

ولذلك، يمكن توقع ثلاثة سيناريوهات للطريقة التي سيتعاطى بها مبارك مع تلك المحاكمة، في حال ساعدته صحته على الاستمرار فيها ومواجهة تطوراتها.

السيناريو الأول: الاستسلام

من الممكن أن يستسلم مبارك أو ينهار، تحت وطأة الشعور بالذل والمهانة، وإحكام الأدلة التي تدينه، وتراجع صحته، وانخفاض روحه المعنوية، ودخوله مرحلة اكتئاب أو انسحاب من الواقع.

يتعزز هذا السيناريو بالزخم الثوري الدافع لعقد المحاكمة واستمرارها، ووضوح الأدلة التي يمكن أن تدينه؛ خصوصاً في ما يتعلق بجرائم الفساد المالي، وتوافق الإرادة الشعبية والسياسية والقانونية على المضي قدماً في المحاكمة بطريقة سليمة، تحت بصر الرأي العام ورقابته التامة.

لكن ثمة ما يحبط هذا السيناريو ويقلل حظوظه في الوقت ذاته، خصوصاً أن مبارك حضر إلى قاعة المحكمة صابغاً شعر رأسه، ومرتدياً خاتم الزواج، وساعة اليد، ورداء مهندماً إلى حد ما. لقد كان الرجل حريصاً على صورته بشكل أو آخر، كما كان حريصاً على عدم الهرب من مصر رغم الفرص الكثيرة المتاحة منذ فبراير الماضي، وهو الأمر الذي يقلل من حظوظ سيناريو الاستسلام.

السيناريو الثاني: طلب الرحمة

يفترض هذا السيناريو أن مبارك سيحصل على حكم بالإدانة، وأنه سيسعى إلى استغلال حال التعاطف التي ظهرت لدى قطاعات بين المصريين، وبعض الولاء أو التعاطف أو التفهم الذي قد يكون باقياً لدى عدد من قيادات الجيش، إضافة إلى احتمال مواصلة ضغوط بعض الدول العربية على السلطة الحاكمة في مصر، من أجل الحصول على قبول عام لفكرة العفو عنه.

سيكون لدى مبارك فرصة للحصول على "إفراج صحي"، تتيحه لسنه الكبيرة، وسجله المرضي، كما سيمكنه الحصول، عبر "حل وسط" مع المجلس العسكري على "عفو رئاسي"، إذ يخول القانون رأس السلطة التنفيذية (المجلس العسكري يمارس صلاحيات رئيس الدولة في الوقت الحالي بموجب إعلان دستوري صدر في مارس الماضي) في البلاد صلاحية العفو عن أي مدان لأسباب تقدرها تلك السلطة.

السيناريو الثالث: تفجير الأوضاع

يفترض هذا السيناريو أن مبارك يشعر بالظلم، وأنه على يقين من كونه لا يستحق ما لحق به من إهانة وإذلال، وأن سمة العناد التي عُرفت عنه، وصفاته الشخصية التي لا يوجد خلاف عليها مثل التسلط والاستعلاء، ستدفعه إلى التصرف بطريقة "عليّ وعلى أعدائي".

في هذا السيناريو، سيرفض مبارك الاستسلام، كما سيفشل في الوصول إلى حل وسط عبر "طلب الرحمة" من المجلس العسكري، وسيصر على تفجير الأوضاع، والمضي في العناد إلى آخر مدى.

ويتعزز هذا السيناريو، بما حدث خلال افتتاح محاكمته يوم الأربعاء الماضي، عندما تقدم أحد محاميه بطلب إحضار المشير طنطاوي للشهادة، في ما دفع محام آخر، خلال استئناف حكم تغريمه في قضية قطع اتصالات الإنترنت يوم 28 يناير الماضي، بأن "قرار قطع الإنترنت اتخذته لجنة من ضمن أعضائها المشير طنطاوي، لذلك فالمشير مسؤول عن هذا الإجراء، ولم يعلم به مبارك". يبدو هنا أننا أمام إمكانية تصعيد المواقف بين مبارك وطنطاوي، حيث يمكن أن يلجأ "الرئيس المخلوع" إلى استهداف المشير وإحراجه، عبر إخراج أوراق أو كشف أسرار، خصوصاً أن الرجلين عملا معاً بتناغم وانسجام على مدى عقدين كاملين.

كان افتتاح محاكمة مبارك مشهداً تاريخياً ودراماتيكياً شديد الإبهار، ويبدو أن حلقات المحاكمة المقبلة سوف لن تقل دراماتيكية وإبهاراً، وكل الأمل أن تنحصر خيارات مبارك في أحد السيناريوهين الأولين، وأن تبتعد الأمور عن السيناريو الثالث، الذي قد يجر مصر إلى مخاطر وفتن ليس بوسع أحد حساب نتائجها فضلاً عن تحملها.

* كاتب مصري

back to top