نهاية امرأة مختلفة
احتفى الموقع الإلكتروني "غوغل" يوم 11 فبراير بمرور 125 عاماً على ميلاد الأديبة مي زيادة. وكم هو جميل أن يخصص هذا الموقع أياماً لتذكّر من يستحقون التذكّر، ويخصص بضع دقائق من التأمل إكراماً لهم، ومن ثمّ رشقهم ولو بزهرة يتيمة. لي، شخصياً، علاقة حميمة مع سيرة هذه المرأة المختلفة، التي تعرفت إليها باكراً، وشممتها تفوح كوردة نادرة بين دفتي كتاب ضخم فاخر الطباعة، مجلّد بلون وردي باهت كصباح يوشك أن يبزغ. كان كتاب "باقات من حدائق ميّ" لفاروق سعد هو الباب الواسع الذي أدخلني إلى عالم مي زيادة في مرحلة عمرية مبكرة، وأذاقني مباهج ذلك العالم وعذاباته، وتنقل بي بين منعطفاته وأدغاله وزهوره وأشواكه، حتى ملأني بالروع والدهشة، وعقد بيني وبين ميّ رابطة روحية غامضة لا تزال تتلبسني حتى الآن.
وقصة مي زيادة في سياقها التاريخي/ الثقافي، تكاد تكون قصة كل الفتيات الطليعيات اللواتي تسبق أحلامهن حقيقة الواقع المعيش. فكانت بثقافتها المتميزة وانفتاحها على التجديد وبصيرتها الشاخصة إلى المستقبل وموهبتها النادرة، سؤالاً حائراً في وسط اجتماعي وثقافي لا تزال تحكمه فكرة تفوق الرجل وسبقه وريادته في حقول المعرفة، الأمر الذي تصبح فيه المرأة المبدعة شذوذاً عن القاعدة. صحيح أن ميّ الآتية بصحبة والدها من لبنان إلى مصر، استطاعت أن تلفت الانتباه وتشغل الناس آنذاك، بيد أن هذا الانشغال بها آتى ثماره الفجة في نهاية المطاف! كانت ميّ نَفَساً جديداً على الجو الأدبي في العقدين الأولين من القرن العشرين. واستطاعت أن تبدع في العديد من الأجناس الأدبية: المقالة والدراسة والشعر والسيرة وفن المراسلة والترجمة. وكان لأسلوبها العذب الرصين المشعّ بجمال الأسلوب وصدق العاطفة وإشراقة الفكر جاذبية خاصة تميزها عن غيرها وتحجز لها مقعداً أثيراً في الأدب النسوي. بيد أن مواهب مي لم تقف عند حدّ العلاقة مع الورقة والقلم، وإنما تجاوزت ذلك إلى التواصل المباشر عبر المحاضرات والخطب التي أعطتها ألقاً آخر وحضوراً لافتاً لشخصها الأنيق اللطيف الذي تعلقت به القلوب قبل الأنظار. ويبدو أن حضور الجمال الأنثوي في شخص ميّ زيادة عمّق من مأزقها الثقافي، في وسط لا تزال كينونة المرأة تُقاس بصورتها الحسية ومقاييس جسدها. ولو كانت ميّ أقل جمالاً وأنوثة لربما استطاعت أن تحلّ ذلك الإشكال لدى روّاد صالونها الأدبي، حين اختلط الأمر عليهم بين المظهر والمخبر. يقول أحدهم واصفاً لهفته على لقاء ميّ في صالونها الأدبي الذي كان يُعقد كل ثلاثاء، مقدماً متعة النظر على كل شيء: إن لمْ أمتّعْ بميِّ ناظريّ غداً أنكرتُ صبحكَ يا يومَ الثلاثاءِ إن القصص حول صالون مي الأدبي حملت الكثير من الإشارات حول امرأة تصارع لإثبات ذاتها الإنسانية المبدعة، وسط حلقة من رجالات الأدب، وثلة من مثقفي العصر ممن اختلفت آراؤهم حولها. فمنهم من أعجب بنبوغها وحضورها الطاغي، ومنهم من تحفظ واكتفى بالفرجة، ومنهم من ذاب هياماً وعشقاً، ومنهم من عاش حباً مستحيلاً، ومنهم من أجاد لعبة الكرّ والفرّ. وكانت ميّ وسط هذه الأجواء الملتبسة تبدو رابطة الجأش، ممسكة بزمام الأمور، حاذقة بإدارتها لصالون بهذا التنوع، تاركة بصمة لا تُنكر في تاريخ الأدب المعاصر. بيد أن هذه الحياة الضاجة بالعنفوان والبريق سرعان ما مالت نحو الأفول، لتلوذ ميّ زيادة في نهاية المطاف إلى أصقاع نفسها منكفئة على الوحدة والصقيع. فقد توفي والداها ومات جبران خليل جبران الرجل الذي أحبته عبر المراسلة ولم تلتقه قط، وتفرّق الأصدقاء، وقلب الزمان للمرأة الوحيدة المنسية ظهر المجن، لتنتهي إلى المرض النفسي والموت في الخمسين من العمر. وتظل سيرة مي زيادة بزخمها الحياتي العابق بالصراع والمأساوية شاخصة في سياقات التاريخ الأدبي، وممثلة للنموذج الإبداعي النسوي في قمة معاناته للمأزق الثقافي والحضاري في مجتمعاتنا الشرقية.