العلمانية الفاسدة!
"لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية، هي فقط مستقلة عنها، ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها، المعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعى إلى التطور والرفاه في هذه الحياة، وتختبر نتائجها في هذه الحياة"... (جورج هوليوك)***
الزميل "مبارك الدويلة" كتب قبل أيام مقالاً في صحيفة "القبس" أثنى فيه على نجاح الإسلاميين في الانتخابات العربية الأخيرة واعتبره دليلاً على أن الناس أدركت أخيراً فساد (الفكر العلماني) وزيفه، يقول الدويلة: "اكتساح الإسلاميين للانتخابات في أرجاء الأرض جاء كنتيجة طبيعية للظروف التي مرت بها الدول المقام فيها مثل هذه الانتخابات، فقد كشفت العقود الماضية فساد الفكر العلماني وزيفه... ناهيك عن أن الناس أرادوا مكافأة الفكر الإسلامي، الذي مع معاناته الطويلة من ظلم وبطش الأنظمة القمعية التي كانت تحكم تلك الشعوب، فإنه كان قريباً من الناس ومن معاناتهم وحاجاتهم، مما يؤكد صفاء معدنه وسمو هدفه"! حسنا، يبدو أن هناك خلطاً بين العلمانية والدكتاتورية من واجبنا تبيانه، فالأنظمة التي يشير إليها الزميل لم تكن سوى أنظمة دكتاتورية تعتمد حكم الفرد الذي لا يؤمن بشيء سوى بذاته المتضخمة، ولديه استعداد للقضاء على كل من يظن أنه ينازعه الحكم سواء أكان إسلاميا أو علمانياً أو شيوعياً أو خلاف ذلك، فكلهم سيان عنده! الطغاة، على الأخص العرب، لا يؤمنون بالعقائد والإيديولوجيات، وعداؤهم للآخر غير قائم على الاختلاف الفكري والعقائدي، بل تحركه على الدوام غريزة البقاء على كرسي الحكم، ولذلك، غير صحيح أن عداءهم للإسلام كدين، فالإسلام يدرَّس في مدارسهم، ومساجدهم عامرة بالمصلين، والبرامج الدينية تملأ تلفزيوناتهم الرسمية، إنما العداء كان دوماً للأحزاب أو الجماعات الإسلامية التي يخشون طمعها في السلطة، لذلك كان القمع والبطش لها لا لكونها تمثل الإسلام وأن الطغاة يؤمنون بالعلمانية، بل لكونها خطراً يتهدد بقاءهم على سدة الحكم، ولو أنهم أمنوا جانبهم "السياسي" لقربوهم وجعلوهم درعاً يحتمون به ويضمن لهم بقاءهم وأبناءهم على رؤوس العباد... وقد فعلها بعضهم!أما حكاية أن الناس أرادوا مكافأة الإسلاميين لصفاء معدنهم وسمو هدفهم، فتبدو لي بعيدة عن الواقع، ففي زمن البطش والقمع يخشى الناس البوح بآرائهم لأقرب الناس إليهم، ولا يجدون لهم ملجأً سوى الدعاء إلى الله بأن يخلصهم من الطاغية، فما إن يتم الأمر حتى يشعر الناس بأن دعاءهم قد استجيب، لذلك، يرون أن من الخير اختيار ناس "بتوع ربنا" كي يتم نعمته عليهم ويبارك لهم، يفعلون هذا وفي مخيلتهم صورة رائعة وبديعة عن الحكم الإسلامي في قرونه الأولى، والتي لا ينفك شيوخ الدين عن ذكر محاسنها في برامجهم وخطبهم المنبرية. والاختبار الحقيقي للإسلاميين أمام من انتخبوهم سيكون في مدى قدرتهم على إدارة الدولة، وهو أمر لا أزعم أن الفشل سيكون نصيبهم فيه، لكنني أرجح حدوثه بنسبة كبيرة، لا حقداً أو كراهية كما يتصور زميلنا الدويلة في فقرة أخرى من مقاله، وإنما لأن الظروف الدولية الراهنة لن تساعد على نجاح أي نظام ديني لصعوبة التعامل معه وللشك الدائم في نواياه، ولأن استمراريته مرهونة بكيفية تعامله مع المذاهب والأديان المختلفة على أرضه، الأمر الذي ينذر بحدوث أزمات أو حروب أهلية من أصغر شرارة!ومع ذلك، من حق الإسلاميين أن يمنحوا الفرصة مادام هذا هو خيار الناس، لكن اعتبار انتصارهم في الانتخابات هزيمة العلمانية كفكرة ومنهج غير صحيح، فقد انتصرت العلمانية منذ زمن بعيد حين اتبعتها كل الأنظمة المتحضرة والمتقدمة في العالم، وانظر حولك- بعين المنصف- لتعرف ماذا قدمت العلمانية للعالم، وماذا قدم خصومها! العلمانية يا سيدي لا تدعو إلى قمع الناس والبطش بهم، كما أن الإسلام لا يدعو إلى مثل هذا، وإذا كنا سنتهم الفكرة بأخطاء من يزعمون تبنيها، فهل يجوز إن حدث وظهر في قادم الأيام من الإسلاميين من يتبع منهج بن علي ومبارك والقذافي وبشار، أن نعتبر ذلك دليلاً على فساد الإسلام أو زيفه لا سمح الله؟!