الحتميات الاقتصادية للربيع العربي

نشر في 20-12-2011
آخر تحديث 20-12-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت مرت سنة تقريبا منذ أن تمكنت الثورة في تونس والاحتجاجات في "ميدان التحرير" في القاهرة من الإطاحة بأنظمة سلطوية متحجرة، وهو ما أشعل عاصفة واسعة النطاق- لا تزال مستعرة- في العالم العربي. في ضوء تلك الأحداث، ليس بوسع أحد أن يتوقع مصير الشعوب والدول العربية في نهاية المطاف، لكن هناك شيء مؤكد: أنه لا عودة إلى الوراء.

فقد برزت هناك حركات وكيانات اجتماعية وسياسية صاعدة، ويجري انتقال للسلطة، وهناك أمل في أن العملية الديمقراطية ستصبح أقوى، وستملأ أرجاء العالم العربي في عام 2012.

تستدعي أحداث 2011 في العالم العربي ذكرى تحولات إقليمية أخرى كان لها تأثير كبير على غرار ما حدث في شرق أوروبا بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، وبالطبع هناك اختلافات لكن سرعة انتشار الاضطرابات وانتقال عدوى الاحتجاجات تحاكي إلى حد كبير الثورات التي أنهت الشيوعية في أوروبا، كما أن هناك تشابهاً كبيراً في الجدل القائم عن المساهمة النسبية للعوامل السياسية والاقتصادية في اندلاع الاحتجاجات الشعبية في نهاية المطاف.

وبينما كانت الرغبة العارمة في الكرامة وحرية التعبير والمشاركة الديمقراطية الحقيقية هي القوة المحركة للثورات العربية، فقد لعب الاستياء من الوضع الاقتصادي دوراً حيوياً، ولا شك أن العوامل الاقتصادية ستساعد في تحديد مصير هذا التحول في العالم العربي في ظل وجود ثلاثة تحديات أساسية يتعين وضعها في الاعتبار على المدى الطويل:

أولاً: يجب أن يكون النمو أكثر شمولية خصوصاً فيما يتعلق بإيجاد الوظائف. بلغ معدل وظائف الشباب إلى عدد السكان 27% في العالم العربي سنة 2008 مقارنة بنسبة 53% في شرق آسيا. علاوة على ذلك اتسعت فجوة تفاوت الدخل وازدادت حدتها مع انتقال الظاهرة العالمية المتمثلة بزيادة تركز الثروة في القمة إلى العديد من الدول العربية.

لقد كانت الدخول العالية في تلك البلدان بشكل عام نتيجة للمحسوبية السياسية لا نتاجاً لابتكارات أو أعمال جادة. صحيح أن تونس كانت مثالاً صارخاً على إفراط النظام في تخصيص المصالح الاقتصادية لمصلحة زمرة صغيرة من المقربين، بيد أن هذا النمط كان واسع الانتشار في بقية الدول.

لهذا السبب فإن وصفة "إجماع واشنطن" المبسطة وغير المدروسة والمتعلقة بإجراء المزيد من تحرير الاقتصاد والخصخصة لا تتناسب مع العالم العربي سنة 2012. إن هناك حاجة سياسية واضحة إلى استراتيجية نمو تتسم بأن تكون الشمولية فيها هي الجوهر وليست مجرد فكرة عابرة.

ليس عند اليسار الخامل المؤمن بدور الدولة ولا اليمين الرأسمالي المؤمن بالمحسوبية وتحقيق منافع عن طريق استغلال الوضع الاجتماعي والسياسي أي سياسات للتعامل مع هذه النزعة نحو الشمولية.

إن القوى السياسية الجديدة في العالم العربي سواء تلك التي تستلهم الأفكار الإسلامية أو الأفكار الاجتماعية- الديمقراطية يجب أن تقترح سياسات لا ترسخ رأسمالية غير منضبطة قائمة على استغلال الوضع السياسي والاجتماعي أو الاعتماد على بيروقراطية الدولة التي فقدت مصداقيتها. سيكون من الضروري عليها استغلال الديناميكية على المستوى الشعبي وإمكانية إقامة مشاريع تنطوي على المبادرة من أجل تحقيق التضامن الاجتماعي والمساواة.

وبينما نعمل على تحفيز نشوء قطاع خاص منافس بحق يتعين علينا عدم إضعاف الدولة، بل يجب تحويلها لتصبح في خدمة المواطنين. إن التحول الاجتماعي يجب أن يكون سخياً وهادفاً، ويكون على أساس الأداء ومرتبطا بالمشاركة في برامج صحية وبرامج تعليم أساسي، بحيث يحل محل أنماط الدعم القديمة التي كانت تفتقر إلى الهدف بصفة عامة.

ينبغي أن تركز برامج الحكومات لتمويل التنمية على إمكانية الوصول على نطاق واسع إلى احتياجات الإسكان والبنية التحتية التي تهم الناس، وأن يحقق كل ذلك من خلال إطار مستدام للموازنة، وهذا يتطلب توفير التمويل اللازم وإجراء إصلاحات إدارية شاملة.

إلى جانب النمو الشامل، يتمثل التحدي الثاني بـ"تطوير المهارات" بأن تكون هناك أولوية قصوى لنظام تعليمي قائم على أساس الأداء. لقد أنفقت العديد من البلدان العربية مبالغ ضخمة جداً على التعليم، لكن المشكلة أن العائد من تلك الاستثمارات كان سيئاً.

إن درجات الطلبة العرب على سبيل المثال هي أقل من المعدل العالمي في اختبارات الرياضيات والعلوم، ومن الضروري إجراء إصلاحات عميقة- تركز على الجودة والأداء بدلا من مجرد الالتحاق بالتعليم وحيازة الشهادات- من أجل النهوض بالعملية التعليمية وإطلاق طاقات النمو في الإنتاجية التي تحتاجها أي قوى عاملة شابة.

أما التحدي الثالث، وهو حيوي من أجل تلبية متطلبات التحديين الأولين، فيتمثل بتقوية التضامن العربي الإقليمي. إن العديد من الشعوب خارج المنطقة يستخفون "بعروبة" العالم العربي أو يقللون من أهميتها لكن ثورات عام 2011، أظهرت أن هناك شعوراً قوياً بالهوية واللغة والتاريخ المشترك الذي يربط العرب معاً بالرغم من الاختلافات الكبيرة في الموارد الطبيعية والظروف السياسية ومعدل دخل الفرد، وإلا كيف لنا أن نفسر أن عملاً ثورياً يندلع في تونس يؤدي إلى ثورات شعبية تنطلق من شمال إفريقيا إلى شبه الجزيرة العربية؟

أحد تداعيات تلك الأحداث يمكن تفسيره في أن الدول النفطية الغنية وقادتها يجب ألا يتوقعوا البقاء بمعزل أو منأى عن الأحداث التي تتواتر سريعاً، فمستقبل المنطقة هو أيضا مستقبلهم، والتحول الذي بدأ سنة 2011 أطلق قوى لا يمكن وقفها، لكن عملية التحول يمكن لها أن تكون أكثر تنظيماً وسلمية وأقل إزعاجاً لو قامت الدول التي لديها ثروات وموارد ضخمة بدعم سخي للدول الأفقر، ودعم الإصلاحات التي تحتاجها جميع الدول العربية.

لاشك أن المؤسسات العربية الحالية التي تتمتع بتاريخ حافل، مثل الصندوق العربي، بوسعها تقديم يد العون في ذلك لكن هذا يتطلب زيادة تمويلها بشكل دراماتيكي.

الرخاء والسلام في المنطقة سيعتمدان على إعمال الفكر في قضايا كبيرة والتصرف بسرعة، ولاشك أن ثورات 2011 هي فرصة تاريخية لجميع العرب، بيد أن تحقيق الاستفادة القصوى منها سيتطلب قدراً كبيراً من الواقعية والشجاعة وإرادة التغيير والاستعداد لدعم التغيير، خصوصاً بين أولئك الذين لديهم أفضل السبل والوسائل للقيام ذلك.

كمال درويش

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة"

back to top