إن أكبر أحلام الشاعر الحقيقي هو أن يعثر على قارئ يجد في قصيدته نافذة حوار مع عالمه الداخلي، فيزيائياً، وروحياً وعقلياً. يتطابق هذا الشرط مع أي قارئ حقيقي أيضاً. الشاعر الحقيقي راءٍ ضالٌ حتى يهتدي لقارئه الحقيقي، وكذلك القارئ الحقيقي. وإذا ما توفرت نسبةٌ كبرى من القراء العاديين، أو غير الجديين، فهي متطابقة مع النسبة الكبرى من الشعراء غير الحقيقيين، ولكن هذه النسبة الكبرى من كلا الطرفين هي الظاهرة الواقعية الأعم، لا في العربية، بل في اللغات العالمية المتقدمة جميعاً، وما من عيب في ذلك. فالقارئ العادي، الذي لا ينطوي على داخل قلق تواق، يكتفي في حقل القراءة بالمتعة والاستراحة في أرجوحة موروثه وتقاليده التي اعتادها. قارئ التسلية الذي يجد في فراغ الوقت ما يثير الذعر. وهذه الحال تتطابق مع الشاعر العادي. كل إنسان يملك الحق في أن يكتب الشعر، يتنفس عبره بارتياح، كما يملك الحق في نشره وإشباع رغبته في إبراز هويته، علة الثقافة والتربية المرتبكة المتهاوية تكمن في خلط الأوراق، في إرباك الحدود بين القارئ الذي لا يقرأ بحثاً عن حقيقة داخل كيانه، أو خارج هذا الكيان، وبين القارئ التواق للضوء، يستنير به في عتمة روحه، وعتمة الأفق المحيط، بين هاوي كتابة الشعر وبين الشاعر الحقيقي. الثقافة والتربية الغربيتان أنهتا هذه العلة منذ فترة غير وجيزة. نعم، وسائل الإعلام لها دورها في التسطيح، كما هي لدينا. فهي تقدم موهبة ضعيفة وتؤخر ثانية، وفقاً لمصالح السوق، ولكن ما من شاعر يبلغُ مستوى استراحته على كرسيِّ عزلتِه الجليلة، وهو تحت ظل النسيان، أو التعتيم المقصود. أمر لا تسمح به حضارةٌ تتقدم ببالغ الجدية، وأمةٌ لا تريد أن تُسهم في خداع النفس.
لا قراءة شعرية ناضجة، إذنْ، دون توفر هذا الحوار الداخلي العميق. القارئ المراهق الذي يتعلق بقصيدة حب، تصلح أن تكون أغنية «جماهيرية»، لا يحتاج إلى حوار حائر بينه وبين نفسه، وبينه وبين القصيدة، وبينه وبين الشاعر، القصيدة لديه وسيط جميل بينه وبين من يحب. وسيط قد يكون سلواناً، ولكنه يوفر أكبر قدر من البلادة أيضاً. وسيط يزول بزوال الحاجة. والأمر لا يختلف كثيراً مع قارئ الشعر البالغ، الذي يوفر كتب الشعر في مكتبته لوقت الحاجة. حاجة صرف الوقت بأسلم السبل. وأنا لا أعيب ذلك. ولكني أُدرجه مع خردوات العرف والعادة. بين يدي الآن قصائد مختارة لشاعر بالغ الجدية، ويتطلب قارئاً بالغ الجدية أيضاً. إنه البولندي زاغايفسكي (مواليد 1945). شاعر يُغني طاولةَ حواري الدائم: مع نصه، ومع النفس. وعادة ما أسرع للنثر الذي يكتبه، في مقالاته الغنية، أستعين بها لتيسير هذا الحوار معه، ومع نصه الشعري. ولأني عادة ما أسعى، عن غير قصد، إلى ترجمة ما يستهويني على هوامش الكتاب الذي أقرأ، فقد ترجمت لزاغايفسكي عدداً من القصائد. هذه واحدة منها: عند منتصف الليل طويلا تحدثنا في الليل. في المطبخ، كان المصباح الزيتي يتوهج بنعومة، والأشياءُ، نابضةً بفعل دعتها، أقبلتْ من قلبِ الظلمةِ لتعرضَ أسماءها: كرسيٌّ، منضدةٌ، إبريق. نخرج، قلتُ، في منتصف هذا الليل، وفي الظلمة رأينا سماء آب تتفجر بالنجوم. قماشةُ الليل الشاحبة، أبديةً وبلا حدود، تخفقُ فوقنا. العالمُ احترق بصمت، طوته جميعاً نارٌ بيضاء، قرىً، كنائس، أكوام قش معطرة بالبرسيم والنعناع. أشجارٌ احترقت، أوراق عشبٍ، ريحٌ، لهبٌ، ماء ونار. لمَ الليلُ صامتٌ لهذا الحد وها عيونُ البراكين راصدة والماضي بقي حاضراً، مهدداً، متخفيا داخل ملاذه كأشجار العرعر أو القمر؟ شفتاك باردتان، والفجر سيصبحُ هو الآخر قماشةً على الجبين المحموم.
توابل
في ضفة الشعر الأخرى
01-03-2012