شاهدت في الأسبوع الماضي ثلاثة أفلام مصرية عرضت قبل ثورة 25 يناير وهي "عصافير النيل"، و"بنتين من مصر"، و"هليوبوليس"، ولاحظت ازدياد مساحات الصمت فيها مثل فلم "رسائل بحر" الذي سبق أن شاهدته من قبل.

Ad

مساحات للصمت الهائل وقلة الكلام، بل أحياناً ندرته في مشاهد طويلة هو أكثر ما تميزت به هذه الأفلام عن تلك التي سبقتها بفترة قصيرة والتي من أهمها أفلام المخرج خالد يوسف مثل "هي فوضى"، و"حين ميسرة"، و"كلمني شكرا"، بالإضافة إلى فلم "1 صفر" و"الفرح" وغيرها، هذه الأفلام كانت تصرخ وتضج بالوجع وتفضح كل المسكوت عنه، وتشتكي الحال، وتكشف عن عذاباتها وعن الظلم المجحف الواقع عليها بالصوت المليان.

لكن الوضع انعكس في أفلام ما قبل الثورة التي خلص فيها الكلام وما عاد له أية فائدة حيث إنه لا يودي ولا يجيب، لذا ساد الصمت الثقيل المترسب بثقل اليأس إلى القاع، وطحن بثقله أنفاس الكلام، حتى باتت المساحات الفارغة والجاثمة بصمتها الثقيل المصحوب باليأس وبالقنوط والحزن واللاجدوى أكثر وأفضل تعبيراً من الكلام.

فحين يموت الأمل لا تترجى أية فائدة من إخراج الصوت من مكمنه، فالحزن الثقيل الناتج من الأمل المقتول أكبر حتى من نشيج البكاء.

لذا التحفت هذه الأفلام بالصمت البليغ الذي قال ما عجز عن قوله الكلام، وفضح السكوت الجهر والإعلان، ففي فلم "هليوبوليس" مثلاً نشاهد الكاميرا تترصد التحولات التي تطرأ على مدينة مصر الجديدة وانحدارها المستمر من زمن إلى زمن آخر، ونلاحظ أبطال الفلم وحتى الناس الحقيقيين كلهم بلا أمل يترجى وبلا غد يُنتظر، حالة من اليأس ومن عدم المبالاة، وشعور بالإحباط وبعدمية الأمل في أي شيء يُنتظر، وهذا ما لاحظته في زياراتي الأخيرة إلى مصر قبل ثورة 25 يناير، كنت أشعر بهذه الروح المسحوقة التي صبغت وجوه الناس في الشوارع، شيء رهيب أن يصل اليأس بالناس إلى الشعور بالعدمية المطلقة والكفر بأي كان، وهو الأمر الذي اصطادته عدسة الكاميرا، لذا نجد حتى الأحلام وئدت، فالذي يريد أن يهاجر لا يعرف إن كان حقيقة يريد هذه الهجرة أم لا، والتي ترسل لأهلها نقوداً توهمهم فيها أنها مرسلة من الخارج مع أنها لم تسافر إلا عبر الأحلام والأوهام غير المحققة، وصديقتها التي تتعاطى المخدرات بلا أية أسباب واضحة لتعاطيها سوى انعدام الأمل، وكذلك طالب الماجستير الذي يقوم بتسجيل رسالته وهو نصف نائم وبلا دافع ولا همة ولا شغف، وحتى العروسان اللذان كان من المفروض أن يبدآ حياتهما بالأمل والفرح، نجدهما محبطين من كل ما يلف حياتهما من أوضاع تبعث على اليأس والقنوط.

فلم "هليوبوليس" و"بنتين من مصر" و"رسائل بحر" و"عصافير النيل"، أفلام في غاية الأهمية فهي تكشف عن تحول في أداء السينما المصرية التي هي صدى وصورة وتسجيل مهم لروح الواقع المصري الذي كان عليه من قبل ثورة 25 يناير.

الله على السينما ودورها العظيم كمرجع تاريخي مهم لتوثيق حياة المدن والناس فيها.

السينما المصرية استطاعت أن تكون سجلاً وثائقياً لتاريخ الحياة المصرية بكل أوضاعها السياسية والتاريخية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية، فهي مرآة الواقع المصري عبر الأزمنة منذ أكثر من 100 سنة، فبمجرد أن تشاهد أي فلم من بداية أفلام الأسود والأبيض إلى الآن تستطيع أن تفهم ماذا كان حال الناس ووضع الحياة في ذاك الوقت.

السينما المصرية كتاب وثائقي وسجل مهم أثر على العالم العربي كله.

كنت أتمنى لو كان لدى الكويت مثله أو حتى لدى منطقة الخليج والعراق حتى نرى ونفهم ونشعر ونحس ونلمس روح التغيرات التي طرأت على حياة الناس، وكيف تفاعلوا معها، وكيف أثرت فيهم.

السينما وحدها القادرة على نقل وتسجيل وجس نبض الواقع الحقيقي الصادق للحياة في وقت وزمن ما، دائماً هو مارق وعابر على عجل.