الشخصية الوطنية... تختفي
الشاعر الدكتور خليفة الوقيان أحد الرموز الفكرية في الكويت، وأحد رواد التنوير الذين عملوا بجهد واخلاص في أكثر من موقع، سواء في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب أو رابطة الأدباء، وعاصر رجالات التنوير أمثال عبدالعزيز حسين وأحمد العدواني المؤسس الحقيقي لحركة الفكر والنشر في الكويت، وأحد الذين ساهموا في صنع الصورة الحية للثقافية الكويتية عربيا. وحصول الدكتور الوقيان على جائزة فلورنسا الايطالية ليس تكريما له وحده بل للحركة التنويرية التي كان أحد أقطابها.الوقيان الذي عرفناه شاعرا رقيقا ومحبا للشعر والشعراء كان رجلا لا يبخل على الشباب بوقته وجهده، وربما هو الوحيد من أعضاء رابطة الأدباء الذي خصص وقته للاستماع للشباب الشعراء وتوجيههم والاهتمام بهم والالتقاء بهم أسبوعيا في مقر الرابطة. وفوز الوقيان والاحتفاء الذي يستحقه اليوم يجعلنا نعرج على جانب من شخصية الوقيان وهو الشعور الوطني الذي دافع عنه في أغلب مقالاته، والذي نرى من المناسب التطرق اليه في هذا الزمن الخاص أو ما يسمى بربيعنا العربي.
في بدايات الانتماء السياسي والثقافي لجيلنا كانت الشخصية الوطنية تطرح خطابا رائعا جديرا بالاهتمام، خطابا يلغي الانتماء المذهبي والطائفي والقبلي، ويدعو إلى مزيد من الحريات والمسؤولية والمشاركة والايمان بالتعددية وطرح الرأي وتقبل الرأي الآخر. وحمل المثقف الوطني إيمانه بنشر المعرفة ومطالبته الدائمة بمزيد من الحرية وانعدام الرقابة عدا الرقابة الذاتية للكاتب. وكان الدكتور خليفة الوقيان أحد هؤلاء الذين حملوا راية الحرية والدفاع عن المكتسبات ومحاربة التطرف والاستبداد بالرأي. اختفت شخصيات وطنية كثيرة في الفترة الأخيرة حين اكتسحت الساحة الأقلام القبلية والمذهبية، وتأججت أشكال الصراع السياسي والثقافي والديني، وانحدرت لغة الخطاب وتفككت الشخصيات الوطنية أو انسحبت لعدم الجدوى في وسط هذا الهرج السياسي. وفقدنا قلم الدكتور خليفة الوقيان مؤخرا وربما نجد له العذر في ذلك، فالأصوات الهادئة لن تجد من يستمع اليها وسط هذا العنف والصخب الإعلامي. والأجواء التي تصاعدت فيها لغة الشتائم وانحدار لغة الخطاب لا تشجع الشخصية الوطنية على المشاركة في هكذا صراع بائس لا يؤدي الا الى مزيد من الانحدار.الشخصيات الوطنية التي قدمت كل ما تستطيع لتساهم في حركة التنوير تختفي حين تكون محصلة هذا العمر الطويل من التجربة الثقافية والسياسية هو هذا الحصاد الجاف من الجدل العقيم. الحركة الوطنية تخسر أوراقها اذا حاولت المواجهة دون أن تنزلق الى ذات الأسلوب في الحوار، وتخسر أوراقها اذا طغت على الساحة صراعات طائفية وقبلية ودينية ومعارضة لها أجندة خاصة وموالاة لها أجندة أخرى.في حالات كهذه سيكتفي المثقف الوطني بلعبة الثقافة، ويرى في عمله الابداعي عالمه الحقيقي، وبمعنى آخر سيبحث عن عزلته. ونحن بالتأكيد لا نتفق معه في هذا، فالدور الذي على الحركات الوطنية أن تلعبه أكبر من ركونها الى انتظار ما ستؤول اليه الأمور. التيار الديني اليوم ينجح في كسب مواقع مهمة، وهو تيار له موقف معلن من الحركات الثقافية وحرية العمل الثقافي، وله موقف معلن من الديمقراطية والتعددية وتقبل الآخر، ووصوله عبر الديمقراطية الى السلطة لا يعني ايمانه بها كغاية وانما كوسيلة. واذا لم يجد معادلا يجبره على الاحتكام للديمقراطية دائما فلن يرى بأسا في الغائها أبدا.خليفة الوقيان وأصوات أخرى كثيرة يجب الا تتوقف لمجرد أن الصراخ حولها أعلى من همسها.