ما قل ودل: المحافظ الذي أعطى القانون والقضاء إجازة
عندما يسترجع المتهمون الذين قضت محكمة الجنايات في مصر في الخامس من يوليو الجاري ببراءتهم في تهمة إهدار المال العام، التي وجهت إليهم، ومن بينهم ثلاثة من الوزراء السابقين، وهي الأحكام التي كانت محل تعليقنا في مقال الأحد الماضي، تحت عنوان "القضاء المصري يكسر حاجز الكراهية في قضايا الفساد".عندما يسترجع هؤلاء المتهمون الماضي القريب، بكل ما حواه من أسرار وأخبار، وحين يشاهدون الثورة بكل إشراقها وطهارتها، وقد بهرت العالم كله، فهل تتحرك شفاههم بكلمات الندم والاستغفار، أمام مبدأ أنكرته النفس الأمارة بالسوء يوماً حين كانت غلابة قوية، طاغية متمردة، ولكن تلك النفس أفاقت على صوت هذا المبدأ ذاته يهزها من الأعماق، وهي في مركز الضعف، معذبة تصدر منها العبرات والأنات، ليقول لها، إنني ملاذك أيتها النفس مستضعفة، ومفزعك خائفة.
والواقع أن هذه الأحكام قد دوت في سمع العالم دليلاً لا يرقى إليه شك على استقلال قضاء مصر ونزاهته وعدالته، وهو الدليل الذي يمكن لوزارة العدل أن تقدمه إلى الدول التي لجأ إليها بعض سراق المال العام أو هربوا إليها أموالهم، لإقناع قضائها بعدالة مطالبنا في استرداد هذه الأموال وفي استلام المتهمين الهاربين؛ لأن العدالة في مصر بخير.وفي هذا السياق فقد استعدت مقالاً كتبته في صحيفة أخبار اليوم المصرية في عددها الصادر في 2/12/1972 م تحت عنوان "سيادة القانون واستقلال القضاء"، تعليقاً على حكم صدر ببراءة سعد زايد، محافظ القاهرة في الستينيات، الذي صرح إبان توليه منصبه أنه أعطى القانون والقضاء إجازة. وعندما أصدر مجلس الدولة حكماً بإلغاء قرار أصدره المحافظ بإغلاق أحد المحال التجارية، رفض المحافظ تنفيذ الحكم، مقرراً أنه منح القانون إجازة.كما كان المحافظ قد شكل في أواخر عام 1966 لجاناً للتحقيق مع ملاك العقارات الذين تقدم ضدهم شكاوى بتقاضيهم "خلوات رجل" من المستأجرين، وتقرر هذه اللجان إلزام الملاك برد المبالغ التي تقاضونها زيادة على الأجرة، باعتبارها "خلوات رجل"، وأن المالك الذي يصر على الإنكار رغم التحريات التي تؤكد أنه أخذ خلواً، سيتم التحفظ عليه بإدارة شرطة المرافق إلى أن يعترف، فإذا تمسك بالإنكار ترفع المحافظة عنه تقريراً إلى الجهات المسؤولة لفرض الحراسة عليه باعتباره مستغلاً وسارقاً لأموال المواطنين. كما كانت هذه اللجان تبلغ إدارة الجوازات بأسماء الملاك الذين لم يتم البت في الشكاوى المقدمة ضدهم لمنعهم من السفر.وقد مدت بعض اللجان اختصاصها إلى الشقق المفروشة لإرغام ملاكها على تأجيرها لشاغليها خالية بإيجار المثل في ذلك الوقت، الذي لم يكن يزيد على بضعة جنيهات، وإلى تمكين الأفراد من الشقق الخالية وإرغام الملاك على تحرير عقود إيجار بها، وإلى اعتبار التأمين الذي يسدده المستأجر زيادة على إيجار شهر واحد "خلو رجل"، وهي أحكام لم يكن القانون يتضمنها في ذلك الوقت.وتمضي الأيام، ويترك المحافظ منصبه إلى الظل، وتقوم ظلال الشك حول إهداره المال العام في إرساء مناقصة استغلال حديقة المريلاند، ويقدم إلى المحاكم، وتصبح قضيته ساخنة أمام المحاكم، فالقانون يطول من تطاول عليه بالأمس ومنحه إجازة، القانون يطول أحد مراكز القوة وأحد رموزها، والمحافظ الذي ساءه جلوس مستشاري محكمة أسيوط في محطة سكك حديد أسيوط ينتظرون القطار ليقلهم إلى القاهرة بعد انتهاء جلساتهم، فأطاح بقدمه بالمنضدة التي كانوا يجلسون حولها، يقف الآن أمامهم يلتمس رحمتهم؛ لأن الرحمة فوق العدل.وتقضي محكمة أمن الدولة في مصر ببراءة سعد زايد المحافظ السابق، وأحد مراكز القوى السابقين من التهم المنسوبة إليه، امتثالاً لقوله تعالى: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى".