أسمى المبادئ وأسوأ الأوضاع!
على الرغم من أن التعليم عند المجتمعات العربية والإسلامية حقق إنجازاً كمياً في أعداد المتعلمين والجامعات ومؤسسات البحث العلمي، وشيدنا مدناً تعليمية كبرى نفاخر بها، وعلى الرغم من الإنفاق الهائل والميزانيات الضخمة المرصودة لها، وعلى الرغم من سلسلة الجهود المبذولة في تطوير المناهج واستنساخ التجارب التعليمية على امتداد نصف قرن، وعلى الرغم من الاحتكاك الكثيف عقب الصدمة الحضارية في الغرب قبل قرنين واستيراد نظمه التعليمية والإدارية والسياسية والاقتصادية وعلومه ومعارفه وتقنياته والانغماس في منجزاته وتداولها إلى حد الشراهة استخداماً واستهلاكاً وتنعماً وتباهياً، ومع أن الله تعالى أكرم المسلمين بهذا الدين بتعاليمه التي فيها صلاح دنياهم وآخرتهم، ووصفهم بالخيرية وحباهم بالنعم الغامرة والثروات المخزونة التي استخرجها من باطن الأرض بغير جهد منهم، فإن المحير والمقلق أن كل هذه الجهود والمحاولات وكل المعطيات والنعم والموارد المبذولة لم تحقق الأهداف المنشودة.فنحن مازلنا عالة على الأمم الأخرى في كل شيء من الإبرة إلى الصاروخ، نستورد الغذاء والكساء والدواء والسلاح وكل مقومات حياتنا من السلع والتقنيات والوسائل والأدوات.
هذا الطوفان من منتجات المتقدمين التي تغمرنا من فوقنا وتحتنا وعن إيماننا وعن شمائلنا، في بيوتنا ومكاتبنا ومساجدنا ومستشفياتنا ومدارسنا وشوارعنا وأسواقنا لم تدفعنا إلى تطوير مجتمعنا لنعتمد على أنفسنا، ولم تحرك فاعليتنا لنبني الازدهار لنتجاوز الفجوة الفاصلة إلى عالم المزدهرين، ولم تغير طريقة تفكيرنا لنكتشف معوقات النهوض وعلل الإخفاق ومقومات الازدهار، ولم ترتق بمنظومة القيم والاهتمامات التي تشغل الجماهير وتوجههم نحو إرادة التغيير طبقاً لقوله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".تخلفنا في أمور الدنيا وعمارتها، لكننا تخلفنا أكثر في فهمنا للدين وفي تطبيقه، فلم نترجمه في سلوكيات حضارية وعلاقات إنسانية مع بعضنا بعضاً ومع الآخرين، نتقاتل طائفياً ونتعصب قبلياً ومذهبياً ونتنابز عشائرياً ونتناحر حزبياً، تصاعد المد المتطرف وتحول إلى إرهاب أعمى مدمر، يفجر مصلين آمنين في بيت الله.العالم الإسلامي اليوم يعيش أسوأ أوضاعه، وأمة الإسلام يقتل بعضها بعضاً كما يقول عائض القرني متسائلاً: انظر إلى خارطة العالم فسوف تجد أن القتل والتدمير والتفجير في الدول الإسلامية: سفك للدماء وإزهاق للأرواح ونسف للبنية التحتية وتخريب للعمار وفئات يكفر بعضها بعضاً، وفتاوى تستحل دم المسلم وتخرجه من الملة وتحرم عليه الجنة... ماذا أصاب أمة الإسلام؟!ويتساءل أبو أحمد مصطفى متشككاً: هل نحن حقاً أمة تدعو إلى الخير والتسامح؟! فالمسلمون إذا استثنينا تركيا وماليزيا يعيشون حالة تراجع كبير، ويسيرون عكس الاتجاه الإنساني العام، كما يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي المهموم بأوضاع المسلمين، ويضيف: إننا نعيش وضعاً مأساوياً وكارثياً، وقد دفعنا العالم إلى التراجع عن مكتسبات إنسانية، فاضطر إلى تقييد الحريات وتشديد إجراءات السفر وتغيير القوانين، فتباطأت حركة الأموال وتعقدت العلاقات الإنسانية، وإن ظواهر التخلف تتفاقم، إذ لم تقف عند العجز التنموي بل انحدرت إلى الأكثر سوءاً؛ إلى عمليات الإرهاب التي تجتاح ديار المسلمين، ويتساءل البليهي- مع إشادته بتجربة دبي- أليس مخجلاً ألا تتمكن كل الشعوب العربية تحقيق ما حققته سنغافورة؟! إننا نؤمن إيماناً شديداً بأن الإسلام ليس مسؤولاً عن تردي أوضاعنا، ونؤكد أن ما يعيشه المسلمون لا يمثل تعاليم الإسلام وقيمه، لا في العدالة والكرامة الإنسانية وإقامة القسط والصدق والتسامح والحرص على الحق وفي الحب والرحمة والإحسان وقبول الآخر، ولا في إدارة أمور الدنيا وعمارة الأرض وتحقيق الازدهار والتنمية، بل إن المسلمين بقصور فهمهم للإسلام وسوء تطبيقهم أساؤوا إلى هذا الدين العظيم وحجبوا أنواره الهادية!هذا التناقض الكبير والمخجل بين عظمة هذا الدين وهوان أهله، وبين سمو تعاليم الإسلام وتردي أوضاع المسلمين، وبين خيرية الأمة كما في القرآن الكريم وسوء أحوالها كما على أرض الواقع، بين النعم الغامرة التي حباها الله تعالى وعجز المسلمين عن توظيفها في تنمية مجتمعاتهم وتشييد الازدهار الذي يعبر بهم الهوة إلى عالم المتقدمين، دفع المفكرين الكبار المنشغلين بقضايا التنمية والتقدم إلى التساؤل: ما مصدر هذا الخلل الكبير الذي يعيشه المسلمون؟! ولماذا نحن عالة على الأمم المنتجة في كل شيء؟! وما هذا الفرق الشاسع بين ما ندعيه من خيرية واستقامة وهذا التكالب على المصالح الخاصة وتضييع المصالح العامة؟! وكيف تتفق الخيرية مع هذا الهوان المقيم والهزائم المتلاحقة والعجز المزمن والتخلف الثقيل والإرهاب المدمر؟! وأين تعاليم الإسلام المؤكدة لكرامة الإنسان واحترام حقوقه؟! وما هذا العائق الصامد بعناد الذي أوصد على عقولنا ووضع حواجز قوية حالت بيننا وبين دخول العصر؟!ويتساءل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري في مقالته القيمة "أفضل المبادئ وأسوأ الأوضاع" فيقول: العرب والمسلمون يمتلكون أفضل العقائد والمبادئ والتعاليم من ناحية، ويعيشون في الوقت ذاته وعلى مدى طويل وكما هو مشهود أسوأ الأوضاع والممارسات والتطبيقات: هذه الورطة التاريخية المستمرة إلى يومنا هذا: ما تفسيرها؟!ويضيف: يجهد مفكرونا الإسلاميون وغيرهم في تبيان وجاهة مبادئ التسامح والشورى والعدل وغيرها من المبادئ النبيلة- وكأن المسلمين يشكون في صحتها وسلامتها- حتى إذا عرضوها كأحسن ما يكون توقفوا عن هذا العرض النظري الجذاب، فلا يبينون لنا: كيف ننقل هذه المبادئ السامية إلى حيز التطبيق؟ ولماذا ظلت هذه المبادئ أغلب عصور تاريخنا إلى يومنا هذا لا تجد طريقها إلى واقعنا المعاش الذي يتفق الجميع على إدانته مع العجز عن تقديم تفسير مقنع لاستمراره؟! هنا يتعلثم مفكرونا الأجلاء على بلاغتهم، وتبقى مسألة التطبيق والممارسة "الحلقة الغائبة" بين الفكر والواقع.ويتساءل الأنصاري مرة أخرى: فإذا قيل لهم إن المسلمين لم يعيشوا واقع الشورى والعدل والتسامح والتوحد وغيرها من المبادئ الجميلة منذ قرون، أجابوا ببساطة: إن هذا انحراف عن الجادة!ولكن السؤال هنا: إذا تطاول هذا الانحراف وبقي قروناً طويلة، ألا يعني أنه يمثل "ظاهرة" لها جذورها الموضوعية في أرضية الواقع وخارطته؟ لماذا لم تعش الخلافة الراشدة إلا سنوات قليلة؟! ولماذا انقسمت الدولة الإسلامية في عنفوانها إلى دويلات؟! ولماذا انتهت الوحدة في عصرنا بين سورية ومصر بعد سنتين ونصف كما انفصمت الوحدة بين باكستان وبنغلادش على صعيد التجارب الإسلامية؟! ولماذا حدثت حماقة احتلال الكويت وتدميره؟! ولماذا يحدث ما يحدث من تفجير وإرهاب وسفك للدماء في باكستان وأفغانستان والعراق والصومال وغيرها من الدول الإسلامية؟! ولماذا أولاً وأخيراً: نهضت أمم كثيرة وتقدمت ومازلنا نحن العرب والمسلمين في مرحلة التيه بمعيار الواقع الحضاري والنهضوي والإنتاجي، بينما خطابنا ملأ الدنيا ضجيجاً عن سمو المبادئ وشموخ المثل؟! ترى هل من تفسير؟!* كاتب قطري