منذ أكثر من خمسة أشهر ومتحف «الغاليري الوطني» للفن التشكيلي يُعلن عن معرض شامل قادم للفنان الاستثنائي ليوناردو دافنشي (1452-1519). شخصياً سبق أن رأيت «الموناليزا»، التي تعرضت للسرقة ولحكايات غرائبية، في لوفر باريس، واللوحة الكبيرة «العذراء والطفل»، التي بقيت تخطيطاً بالأسود، وتعرضت عام 1982 لإطلاق رصاص، في «غاليري لندن الوطني»، ولوحة «عذراء الصخور» في لندن أيضاً. وحاولت رؤية لوحة «العشاء الأخير» الشهيرة، التي أوحت برواية «دافنشي كود» لدان براون، وحيكت حولها الأسرار الغامضة، في ميلان، ولكن الأمر استعصى علي لامتداد طابور قطع التذكرة. وبضعة أعمال تخطيطية في معارض متفرقة. معظم أعماله الأخرى تعرفت عليها في الكتب. وعبر الكتب تعرفت على سيرته الفنية والعلمية.
الهالة التي أحاطت بشخص دافنشي، وعززت طابعه الأسطوري، وليدة عوامل عديدة، يقف على رأسها عامل شموليته في حقل المعرفة والإبداع أصبح معها نموذجياً لعصر النهضة برمته: فنان، فيلسوف، عالم في البيولوجيا والفيزياء والابتكار العملي في حقل الطيران، والغوص في البحار. ثم يليه عامل تفاصيل حياته التي يلفها غموض المعتزل ذي العادات الغريبة (يُقال انه كان يكتب من اليمين إلى اليسار!). العامل الآخر تعرّض معظم نتاجه للتلاشي والغياب. وإذا كان الفن يعنينا في هذا الحديث فإن دافنشي كان مُقلاً بصورة استثنائية في هذا الحقل بسبب تأنيه، فاللوحة قد تستغرق عقودا من الزمن، ولكنه كان مذهلاً في هذا القليل. لم ينتج أكثر من عشرين لوحة طوال خمسين عاماً، خمس عشرة لوحة منها تنتسب له بيقين، والبقية تمت على يد تلامذته ومقلديه. عدد منها لم يكمله، وعدد أتلفه بيده، وآخر فُقد دون أثر. ومن هذا المتبقي عرض علينا «الغاليري الوطني» تسع لوحات زيتية. ولكن وسط عشرات التخطيطات الهامة. العرض، الذي يغطي فترة عقدين من نشاط دافنشي حين كان رسام البلاط في ميلان (1480-1500)، يبدأ بتخطيط بالغ الإثارة: رؤياه لكيفية عمل العقل البشري. وقد كان صائباً علمياً في تشريح العين وعلاقتها بالمخ. إلا أن اللوحات الزيتية المعدودة تنقلك إلى مدى غير مألوف لدى فناني عصره. فأي مقارنة مع مايكل أنجلو مثلاً، تريك قدرة دافنشي على توحيد الحياة والفن على لوحة الكانفس. وإذا شئت الدقة فتوحيد فاعلية الشكل الذي يلتقطه البصر والروح التي لا يلتقطها. البورتريت في اللوحة يتنفس، ونظرة العين عادة ما يشملها غموض ماورائي. «الموناليزا» غير موجودة في هذا العرض طبعاً، ولكننا نتذكر ابتسامتها في العين، حتى لو أخفيت الشفتين. النظرة في لوحة «الموسيقي» تشف عن حيوية وإدراك داخليين. «سيسلياغاليراني» الفتية، زوجة الدوق «سفورزا» في ميلان، تستدير قليلاً باتجاه شيء ما أو شخص ما غير مرئي. وبين يديها حيوان من فصيلة بنات عرس ببراثن، وذو إيحاء أسطوري. الدقة في التفصيل الصغير تكشف عن أن دافنشي كان يسعى إلى رفع الجمال الأرضي إلى جمال سماوي. وكذلك التوتر بين ما يراقبه وما يتخيله. وهذا واضح أكثر في لوحته «لا بيلي فيرونير»، أو «صورة امرأة» 1497، التي تكاد تكون تعجيزية لا في قوة تأثير الجمال الأنثوي فقط، بل بشحنة العاطفة في العينين وفي كل تفاصيل الوجه الأخرى. دافنشي رسم لوحة «عذراء الصخور» في نسختين. المعرض وضعهما متقابلتين في قاعة واحدة. مشهد الطبيعة الصخرية مثير للروع، بسبب الذُرى الصخرية المدببة، التي تشبه أنياباً. والعذراء مع الطفل مُحتضنين من قبل المشهد الصخري. الدقة تُحيلك إلى الواقع، ولكن مشهد الصخور، وبرودة الزرقة في الماء، وعتمة الكهوف تأخذك إلى مدى خارج الواقع والتاريخ. لوحة «السيد المسيح» اكثر اللوحات المعروضة غرابة، لأنها أكثرهن سعياً للكشف عن الحياة الداخلية. التفاصيل تبدو عن قرب لا تقل دقة وواقعية عن البورتريتات الأخرى. ولكنك حين تتأمل اللوحة عن بعد تنتبه إلى الغموض الغرائبي وتفجر المشاعر. ولعل هذه الخصيصة هي التي جعلت نقاد زمنه يطلقون عليه لقب «رسام المشاعر».
توابل
أسرار دافنشي
01-12-2011