الوقوف على مشارف النهاية ليس مثيراً للذعر، إذا ما كانت الإطلالة من نافذة فنية: لوحة، شاشة سينما، كتاب. الأمرُ خلاف ذلك سيكون خارج التصور، حتى داخل مخيلة جهنمية.

Ad

قبل أسبوعين زرت معرض الفنان الانكليزي جون مارتن (1789-1854)، وكتبت عنه. هذا الاسبوع شاهدت فيلماً جديداً للدنماركي Lars von Trier. وقرأت عرَضاً أخبار التبشيري (أو النذيري) المسيحي هارولد كامبنغ، الذي أخبر عن النهاية الوشيكة للعالم. في بحر عشرة أيام عشت في دائرة خيالية ليست من اختصاصي. كان فيها العالم لا يشبه سلحفاة بطيئة باتجاه البحر، بل قشة في ريح عاتية.

عنوان معرض جون مارتن Apocalypse، ويعني، في ما يعني، الرؤيا النذيرية بنهاية العالم، أو القيامة. لوحات جون مارتن وجدت في حينها، ومازالت، متعة في استثارة خيال الناس باتجاه الفزع من النهاية. انتفع من «كتاب الرؤيا» في الانجيل، معززاً رؤيا يوحنا بقصص التاريخ المريعة عن نهاية بابل، وبركان بومبي، ولوحات القيامة الثلاث.

وبالرغم من أنني غير مُعجب تماماً بقدرات مارتن الفنية، ولا بتطرف مخيلته الشعبية، إلا أن نذيرية هذه المخيلة نثرت شيئاً من الرماد الخفي، غير الواعي، في داخلي، وفي داخل كثيرين، ممن لا يرون استحالة قاطعة لنهاية ما. أليس موت الفرد نهاية لا تقل وقعاً؟

سبق أن رأيت عدداً من أفلام الدنماركي لانرز فون تريير: «دوغفيل»، «البلهاء»، «انكسار الأمواج»، «عناصر الجريمة». وهذا فيلم جديد على الشاشة بعنوان مثير، وإعلان مثير. ذهبت إليه على عجل. الاسم «مِلانخوليا»، والاعلان عن نهاية العالم!

Melancholia تعني انحرافاً نفسياً باتجاه الحزن، أو «السوداء». والمخرج شاء أن يطلق هذا الاسم على كوكب لون فضيته تميل للزرقة، يظهر فجأة كبشير أول الأمر لشبهه بالأرض. البطلة «جوستين» في مشروع زفاف باتجاه قصر أختها الثرية مع عريسها. الحفل الباذخ يفشل بين يدي الجميع، والزواج يتحول إلى طلاق، تحت وقع خلافات الأب والأم. جوستين تفضل البقاء في بيت أختها كلير. تدخل مرحلة أسى يتحول إلى ملانخوليا. بين حين وآخر تتطلع إلى نجم بعينه، وجدته آسراً. سرعان ما يتلاشى وراء آخر، صار يتسع مع الأيام.

يتبين الجميع أن هذا النجم، شبيه الأرض يقترب، بالرغم من تفاؤل زوج كلير، أخت جوزفين. واتساعه يوسع من الهوة السوداء التي يوفرها في قلب المشاهدين، (هل كنت أحدهم؟). الفيلم يتجه نهو النهاية، فكلير تستعر خوفاً على ولدها الصغير، وزوجها الذي يعترف بالحقيقة ينتحر، في حين تزداد جوستين هدوءاً، لا يختلف عن هدوء زرقة الكوكب المقترب. ثم يحدث التصادم، تحت وقع مؤثرات صوتية لا تُقاوم.

لم أرَ الفيلم رائعاً هو الآخر، شأن معرض مارتن. لا بسبب الخوف الأكيد، بالتأكيد. كان العزاء فيه هو استخدام موسيقى فاغنر الذي لم ينقطع، من مُفتتح أوبرا «تريستانوإيزولدة».

بعد الفيلم مباشرة، وأنا في طريقي إلى البيت، قرأت في صحيفة توزع مجاناً في الأندرغراوند، أن الخطيب التبشيري هارولد كامبنغ، الذي يبلغ التسعين عاماً، دعي إلى الراديو للحديث بشأن نبوءته التي لم تتحقق. وفي الحديث اعتذر لجمهوره من أن نهاية العالم لم تتحقق في 21 من شهر مارس الماضي، كما تنبأ. هناك تأجيل رباني للحدث حتى 21 من هذا الشهر، أكتوبر.

لا أخفي عجبي من أن يترتب هذا المسلسل معي بهذا التناسق: أن تتوافق الرؤى الفنية، السينمائية، الدينية باتجاه مشارف النهايات. ولأن السؤال، حتى خارج الأفق الديني، يظل مذهلاً لقدرات الكائن الواعية، فإن مشاعر النذير الداخلية تظل كامنة، ولكن فاعلة. موت الانسان سنّةٌ في الطبيعة، ولكن زوال الأحياء، وعالمهم الأرضي، مادة يسرّبها الكائن في داخله إلى مواطن خفيه، عادة ما تُعنى بالإبداع الخيالي: فهل تطلع علي في نص شعري؟