عن الأوضاع في البحرين
في 27 مارس الماضي، نشرت مقالاً في هذه الزاوية بعنوان "دول الخليج بين الحوكمة والديمقراطية"، أشرت فيه إلى توجه بين قطاع من الباحثين الغربيين إلى الاعتقاد بأن "حوكمة من دون ديمقراطية أفضل من ديمقراطية من دون حوكمة"، خصوصاً في دول تتميز بأوضاع تاريخية واقتصادية وسياسية شديدة الخصوصية مثل دول مجلس التعاون الخليجي.يعرف هؤلاء الباحثون الحوكمة بأنها خليط من "السلام والنظام والحكم الرشيد"، وبوصفها ممارسة حركية لسياسة الإدارة العامة وطاقتها، فإن الحوكمة لا تقنن منح السلطة أو تنازعها، لكنها تلزم الحكم بقرارات ناجعة تصادف التوقعات، وتحتم التحقق من الأداء.
ويجد هؤلاء الباحثون أن دول الخليج العربية هي المكان الأمثل لاختبار صحة هذا الطرح، معتبرين أن تلك الدول تحظى بأنظمة حكم تتمتع بشرعية كبيرة ليس مطعوناً فيها بأي حال من الأحوال، وأن عوائد النفط السخية تساعدها في توفير حد أدنى من الكفاية لمواطنيها، الذين لم ينشطوا في مطالبات واضحة أو ملحة لتغيير أنماط الحكم.ويضرب هؤلاء المثل بأن دولاً مثل باكستان عرفت الديمقراطية لكنها لم تعرف الحوكمة، في وقت تمارس فيه دول مثل الصين قدراً من الحوكمة أكبر بكثير مما تعرفه من ديمقراطية، حيث تظهر المقارنة في هذا المثال تحديداً نجاعة فكرة "حوكمة من دون ديمقراطية أفضل من ديمقراطية من دون حوكمة".وقد كان أحد الأسئلة التي طرحها المقال المشار إليه على النحو التالي: هل يمكن وصف الأنظمة الخليجية بأنها "أنظمة محوكمة"؟ وفي حال الإجابة بنعم، هل يكتفي الخليجيون بالحوكمة، ويستعيضون بها عن المطالبة بالديمقراطية؟اليوم وقد مرت سنة تقريباً على طرح هذا السؤال، يبدو أن البحرين معنية به أكثر من أي دولة خليجية أخرى، فرغم التعتيم الواضح على الأوضاع الساخنة في هذا البلد المهم في معادلات التوازن في منطقة الخليج، فإن الأخبار تصل من مصادر شتى عن تظاهرات متتالية وأوضاع سياسية غير مستقرة ومطالبات متصاعدة من قبل فصيل من المواطنين، وقد بدأت تلك المطالب تتخذ منحى شبه منتظم، لم ينجح في الحد منه التعتيم الإعلامي أو التمركز الأمني أو الدعم السياسي التي تتلقاها المنامة من شقيقاتها الخليجيات، أو حتى "التفهم" الغربي لبعض الإجراءات الخشنة التي تتخذها بحق المحتجين.الأخبار الجيدة في ما يتعلق بالبحرين هي أن تلك الاحتجاجات، رغم ما انطوى عليه بعضها من ميل ثوري ورغبة في تغيير جذري للأوضاع وخطابات حدّية ونزعة تأجيجية، ما زال يمكننا وصفها بأنها "إصلاحية" في مجملها، وأنها لا تطعن مباشرة وجذرياً في الشرعية التاريخية والسياسية التي يستند إليها الحكم، وأنها باتت تدرك أيضاً أن المسار الذي آلت إليه الأمور في بلدان مثل مصر وتونس وليبيا يصعب أن يظهر مثيل له في هذه النقطة الحساسة بالخليج العربي في هذا التوقيت بالذات. الأخبار الجيدة أيضاً تظهر في إبداء الحكومة البحرينية درجة واضحة من ضبط النفس إزاء الاحتجاجات، وعدم الانجرار إلى استخدام العنف بحق المحتجين على نطاق واسع شبيه بما جرى في دول ما عُرف بـ"الربيع العربي"، إضافة إلى درجة من القدرة على الاعتراف علناً ببعض التجاوزات الخطيرة التي وقعت بحق معارضين وناشطين وتحمل مسؤوليتها أمام الشعب والتعهد باتخاذ خطوات لتجاوزها.لكن الأخبار السيئة تظهر بوضوح، وربما تأتي كل يوم بجديد؛ إذ بات المجتمع البحريني الذي عُرف على مدى عقود بالاستقرار والتعايش والتفاهم ينزع نحو الانقسام على خلفية الاحتجاجات والمطالب التي يطرحها المحتجون، والأصعب من ذلك أن هذا الانقسام أخذ في التكرس على أساس طائفي.لا تقل مناعة أي بلد من البلدان إلى الدرجة الأخطر، إلا عندما تُمس وحدته الوطنية، وينقسم شعبه إزاء الجامعة الوطنية بسبب الانتماءات الدينية أو المذهبية أو العرقية.لقد ساعدت بعض التوجهات داخل الحركة المطلبية البحرينية التي بدأت قبل سنة بصيغة سياسية اجتماعية، كما ساعد التصدي الأمني السياسي غير الحاذق لها، على تعميق الحس الطائفي في هذا البلد، بينما كرست الأدوار الإقليمية إزاءه مخاطره وأعطته ذرائع للتأجج والانتشار. يعطي التصور بأن مشكلة البحرين مسألة طائفية صرفة، يلعب فيها التنافس الإقليمي الإيراني- السعودي دور البطولة منفرداً، إشارة خاطئة إلى المحتجين وإلى المراقبين على السواء.ولا يعني هذا مطلقاً أن ما يحدث في البحرين مجرد حركة مطلبية سياسية واجتماعية لا يطولها أبداً أي تأثير طائفي ولا تحرفها أحياناً أغراض إقليمية ومؤثرات غير وطنية.لكن ما يمكن الاتفاق عليه في هذا الصدد أن تعزيز صيغة "الحوكمة" وتفعيلها في هذا البلد يمكن أن تهدئ من النزعات الاحتجاجية وأن تضع الجميع على أول طريق الحل، دون أن يعني هذا تجاهل أن ثمة طلباً على الديمقراطية في البحرين، يجب أن يؤخذ في الاعتبار، وأن يتم التعاطي معه بما يحول دون الانقلاب على الأوضاع الراهنة أو تركها على حالتها الراهنة.ستواجه دول الخليج العربية، وأولها البحرين، مشكلات عديدة إذا اعتقدت أن الأوضاع يمكن أن تستقر وتستمر في غياب الديمقراطية لعقود أخرى مقبلة، دون أن تكون هناك حوكمة ظاهرة ومبرهن عليها في جميع أنماط الأداء الوطني، بشكل يضمن تحقيق الرخاء وإدامة الكفاية. وستكون المشكلات أصعب في الدول التي لا تصدر النفط على نطاق واسع بالطبع، لذلك فإن البحرين مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى تفعيل إجراءات الحوكمة، بشكل ينعكس مباشرة على أوضاع معيشة مواطنيها، خصوصاً في جانب قرارات الاستثمار والتصرف في الممتكات العامة، على أن يقترن ذلك بإصلاحات تدريجية تعنى بالاستجابة إلى تطلعات شعبها إلى حياة سياسية أكثر ديمقراطية وعدالة في تحقيق تكافؤ الفرص.* كاتب مصري