منذ متى يا ترى ونحن نلوي أعناقنا ذات اليمين وذات الشمال كطائر اللقلق، بحثاً عن صوت شعري له رائحة الشعر وروحه وبراءته؟! سنوات من عمر الانتظار والشعر عصي على الكتابة وعصي على القراءة، حتى لكأنك كلما تهيأت له أدخل ذائقتك في عراك مرير وجرّها على الشوك والحصى! وباسم الحداثة الشعرية- التي قفزوا إليها من فراغ مدقع– بدأ الشعر يفقد لغته وجاذبيته ومراوداته المغرية، وغدا مجرد صنعة مفبركة وهيكلاً سريالياً مفككاً يخرج لسانه استهزاءً برسالة الشعر وقيمه الأصيلة.
لعل أحدنا لا يتذكر، وهو يجوب هذه الصحراء القاحلة، متى أوقفته الدهشة آخر مرة أمام صورة حميمة أو دمعت عينه أمام شعور مباغت ينبثق في القلب كنصل رهيف، بيد أن السراب قد يباغتك بغيمة، فإذا حصل لك ذلك فأنت في حضرة الشعر، فاخلع نعليك وتهيأ. هذا الصباح عبرتني تلك الغيمة الندية... (تلك البثينة)، وتركت على نافذتي هذا الرذاذ الطازج: (أريد أن أشتري لي بيتاً / ثم أحوله إلى أنقاض / يجب عليّ أن أمعن في الهدم / لكي يجيء البناء مجيداً وجديراً سأعيد تشييده متسقاً مع جنوني / ضاجاً بالتناقض / ... هجيناً وغريباً / يئن من الوحدة إذا كان لابد من سقف / فليكن من جريد النخل / مثل غربال ينخل شوائب العالم / يسرّب لي فقط ما هو شفاف وهزيل مثل خيوط الهواء / مثل همسات الضوء / ... مثل الفراغ / ... مثل اللاشيء سأسمح للشمس بالدخول إلى بيتي / كل صباح / كما لو كانت هي ربة البيت / التي تقلي البيض وتعدّ القهوة / تمسح أديم المكان بورق الجرائد / وتلعن أخبار الحروب. جدران بيتي ملطخة بالقصائد / وصور الطفولة / تلك الصفراء المريضة / حيث وجهي على حافة الوجود / وفي أقصى زاوية / من العدم) ............................... هكذا تدخلك الموجة بلغة تبدو في متناول اليد وعفو الخاطر، بيد أنك لا تلبث أن تكتشف فرادتها وخواصها النفسية، وانبعاثاتها اللطيفة الرهيفة وكأنها البخار أو الضباب اللدن. لغة تخوض في ألمك اليومي العابر، وتنكأ بلادة الحياة واعتياديتها، ثم تقطر دقائق الوقت – متأنية - لتصنع لك شاي النعناع الذي يليق بمزاجك وتهاويمك المؤجلة. من نص بعنوان "صباح آخر" تكتب بثينة العيسى: (هذا صباح رمادي (أيضاً) / ما الذي ينتظر هذا الزحام الأبدي / من البشر والعربات / في صباح رمادي؟ هذا أول عصفور يعبر سماءنا / منذ الأمس / وشجيرات الشوارع تئن ألماً / بعد أن تحول أخضرها العفوي / إلى الشكل المربع تبدو الشوارع أكثر صمتاً / هذا الصباح / ترى ... أي نوع من العواصف ننتظر / ونحن نرى أرواحنا المهلهلة / تنتزع من صدورنا / وترمى مع مخلفات الروتين الكوني العظيم؟ آلاف العربات والبشر يبدؤون يوماً جديداً / بصباح رمادي / واحترار كوني / وانتخابات برلمانية مملة / وجثة قطة سوداء ... إذاً ... من سرق ألوانك الزاهية / أيها الصباح الجديد؟) من يتصور أن الشعر يمكن أن يكون دانياً إلى هذا الحد، ومندساً بكل هذه التفاصيل الحميمة، وأقرب إلينا من أنفاسنا؟ الأمر لا يحتاج إلا إلى بصيرة صافية وحدس مرهف ليتحول نثار الموجودات والأشياء التي نظنها بلا قيمة إلى شعر صافٍ مؤثر. أما في نص (غرفة للثقافة والغسيل وأشياء أخرى) فنقرأ: (هذه هي الغرفة / الغرفة التي "تخص المرء وحده" / ولكنها أيضاً / تخص العالم بأسره هذه هي غرفة الغرف / ووطن الأوطان غرفة مخصصة لكي الملابس، ونشر الغسيل، والقراءة / فيها فراغ يتسع لرقصة الطير الذبيح / وإذا لم تكن فوضوية جداً / فإنها يمكن أن تصلح لساعات طويلة / من اللاشيء... هذه هي الغرفة إذن؟ / الغرفة الوحيدة التي حظيت بها في حياتي؟ / الغرفة الوحيدة التي تخصني / في هذا العالم أنا وكل شيء آخر) تصور أنه من الممكن أن يدلف إلى صباحك هذا الشعر الأليف الذي يبكيك بغبطة مفرطة، ويذكرك بوجه كان يشبهك أو ربما برائحة كانت لك! أو على الأقل يجعل يومك مختلفاً. (*) النصوص مقتبسة من موقع بثينة العيسى الإلكتروني http://www.bothayna.net/home/index.php?categoryid=13andp2_articleid=5
توابل
وجه على حافة الوجود (*)
15-11-2011