بودرة في سديم

نشر في 12-03-2012
آخر تحديث 12-03-2012 | 00:01
 فوزية شويش السالم كان الصمت من حولي يتكاثف لدرجة أن حفيف عمقه سمعته في أذني، صمت يتكتل في كل أرجاء البيت الكبير، يزحف في كتل تترسب في سمعي.

للصمت أصواته مثل ما للظلمة دكنة ظلامها، وللنور وهج سطوعه، وكلما ازداد وعينا فيها اتضحت وأسفرت وبانت في جلاء أكبر وأكثر.

ومن كثافة الصمت وانطباقه علي، انبثقت فجأة حقيقة ساطعة لا أدري كيف كان وضوحها غائباً عني، وكيف لم أنتبه لها من قبل وأدركها بهذا الجلاء السافر؟

كيف لم أفكر بالموت على أنه فراق لا لقاء من بعده بأي توقيت آخر، وإنه فراق يُحيل إلى المحو والعدم، وكأن كل ما كان لم يكن ولم يوجد.

وفجأة طوقني حزن وخوف أرعبني من هذه الصحوة التي أنارت لي معنى المحو الكامل لكل سيرة الموجود ممن نحب، ومن كل أمل بلقائه في أي زمن وفي أي مكان كان.

وأصابني الفزع من فكرة فقدي لكل من أحب ومن عدم الالتقاء بهم في أي وقت أو مرحلة أو دور آخر بشكلنا الذي كان، كيف لي أن أتحمل فكرة أن أولادي الذين أنجبتهم من روحي، والذين يمثلون لي معنى وجودي كله، هل يمكن أن أتخيل فراقي عنهم ليس له أي لقاء في أي توقيت أو زمان أو مكان، وأنه فراق ومحو لذاكرة حملت كل تفاصيل الحياة الحلوة والمرة التي عشناها معا، تتحول فجأة إلى غياب مطلق مجرد بودرة في سديم لا يحمل ذاكرة حياتنا الأرضية، ينتهي إلى عدم كامل لا طريقة تحملنا إلى لقاء من بعده.

فكرة أنه لا يوجد لنا لقاء بعد فنائنا موجعة للغاية، فهل نتخيل أنه بعد كل هذه الحياة التي لا معنى لها من دون أحبائنا تنتهي بالمحو الكامل لذاكرتنا؟

ربما هذا هو السبب الذي يجعل من الموت خوفاً هائلاً مسيطراً على قلوب وأفئدة الناس، خوفاً من هذا الفراق الذي لا لقاء بعده، وهو الفراق الوحيد الذي لا نقول فيه إلى اللقاء، إذ كان من بعد كل فراق لقاء مهما طال زمن الفراق نعرف أننا مادمنا  أحياء فبإمكاننا اللقاء متى ما أردنا له أن يوجد ويتحقق.

وحده فراق الموت الذي لا يمنحنا حق الرهان على لقاء من بعده، إلا إذا تحقق لنا الحلم بلقاء الجنة التي قد تأتي لبعضنا.

الخوف من الموت والفقد والمحو والانتهاء بالنسيان الكامل لذاكرة الحياة هو السبب وراء الجريان خلف التواجد والتجمع والالتصاق في التكتلات والتجمعات الإنسانية، فالموت هو الهاجس والدافع المطارد لكل أشكال الأنشطة الإنسانية، فالخوف والفزع من الانمحاء هي الفكرة التي تجعل الإنسان يزرع بذرته في أسرة وفي مجتمع وفي وطن وعالم وكون، وهي التي تدفعه إلى البحث الدائم عن الالتصاق بالخلايا البشرية التي من حوله، وهي، من ثم، كانت السبب وراء نجاح كل شكل من الأشكال التي عملت على ازدياد عملية الالتصاق والتكتل البشري التي قامت ونشأت عليها المجتمعات والمؤسسات المدنية كلها.

وهو أيضاً الأمر الذي ساعد على توسع وازدياد انتشار شبكة التواصل الإلكترونية بشكل أسطوري رهيب، فهي قادرة على ربط البشر بعضهم ببعض بكبسة زر تشعر الفرد أنه مازال حياً في علاقة حية ومترابطة مع آلاف الأحياء مثله القادرين على التواصل معه في لحظة تطرد عنه رعب الفقد والفناء.

زر كهربائي صغير قادر بسرعة البرق أن يضع الفرد ضمن شبكة من ملايين أو من مليارات البشر الأحياء الذين يضخونه في نبض حياتهم واستمرارهم الوهمي والمؤقت في وجود قابل للمحو والزوال والتحول إلى بودرة في لحظة فراق لا أمل في لقاء من بعده.

السؤال يداهمني في إلحاح عاجل: لو لم يكن هناك محو للوجود الإنساني بعد الحياة، أي إن الخلود هو مصيره، فهل سيحرص الإنسان على سعيه الحثيث إلى كل هذا الالتصاق والتواصل البشري الهائل؟

وهل سأجدني أهرب إلى التواصل مع «الفيس بوك» حين يداهمني الخوف من فكرة الصمت من حولي الذي يحيلني إلى ذاكرة الفناء؟

هذا الخوف من محو واقف في الانتظار يدفع بالجميع إلى الانعقاد بسلسلة الحياة الدائرة في «الفيس بوك».

 

back to top