في سنة 2010 صرح ستيوارت بوين المفتش العام المستقل، الذي عينته وزارة الدفاع الأميركية للتحقيق المحاسبي في شكاوى متواترة عن تبديد وسرقة أموال خصصت لإعادة إعمار العراق بعد غزوها أميركيا سنة 2003، صرح باكتشافه فقدان مبلغ 6.6 مليارات دولار، ثم علق بأنها أكبر عملية سرقة للمال العام في التاريخ. لجنة النزاهة البرلمانية العراقية من جانبها اتهمت الحكومة الأميركية بسرقة تلك المليارات.

Ad

وللتوضيح نعيد الشريط قليلاً للوراء.

في سنة ٢٠٠٣ قامت الولايات المتحدة بغزو العراق، وأطاحت بنظامها القمعي حينذاك، الذي كان نظاماً مبدعاً في انتهاكات حقوق الإنسان بصورة غير مسبوقة، إلا أن أميركا وفي غمرة حماستها لقيادة العالم، كما يراه المحافظون الجدد، انتهكت في غزوها ذاك كل التزاماتها المفترضة مع الأمم المتحدة أو بالقانون الدولي الإنساني.

وعلى الرغم من مأساوية تفاصيل ما حدث في العراق، إلا أن أحداثاً بعينها تذكرنا بقصص "اللص الظريف" أرسين لوبين، أو روايات الشطار والعيارين.

فحالما تمت السيطرة على الأوضاع أسست سلطات الاحتلال ما عرف حينها بسلطة الاحتلال المؤقتة أو CPA. جيء لفترة قصيرة بشخص يدعى جاي غارنر، ولكنه سرعان ما أزيح، ثم جيء بشخص آخر يدعى بول بريمر، والذي كان مسؤولاً مباشراً عن كل ما حدث في العراق لاحقاً. وقد عاينت شخصياً الكثير من تلك المآسي خلال مهمات إنسانية دولية عديدة في العراق، أوضحنا فيها عبر تقارير منشورة جوانب تلك الانتهاكات، ولكن لذلك حديث آخر.

المهم استمرت الـCPA مدة 14 شهراً وتم حلها في شهر يونيو 2004، ومن ثم مغادرة بول بريمر الذي ألف كتاباً لاحقاً عن تلك الفترة افتقر إلى كل قيم المصداقية. وبما أن الحكومة الأميركية قد استولت على العراق فقد استولت أيضاً على أرصدته المالية في نيويورك وبالذات الموجودة ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء. وقد قامت وزارة الدفاع الأميركية بتحويل 20.7 مليار دولار من الأموال العراقية ووضعها تحت سيطرة بريمر "مصرف جيب". وقد أثيرت منذ سنوات قضايا حول فساد فترة حكم بريمر وغيره، الأمر الذي استدعى تعيين ستيوارت بوين للتحقيق في تلك الشكاوى. تساؤلات بوين شملت أيضاً مصير 217.7 مليون دولار كانت مخبأة في قبو في أحد قصور صدام الرئاسية، حيث استولى عليها أفراد تابعون للبنتاغون. كذلك فإنه من المقرر صدور تقرير في يناير القادم لتحديد مصير 2.8 مليار دولار أنفقتها هيئات وزارة الدفاع الأميركية دون التزام بقواعد الصرف المعتمدة.

الجديد في الموضوع هو أن بوين أعلن قبل ثلاثة أيام أنه اكتشف مسار 6.6 مليارات، وأنها لم تكن مفقودة بل كان قد جرى تحويلها من بنك نيويورك إلى البنك المركزي العراقي، مؤكدا أنها بذلك لا يوجد ما يفيد بأن هناك أي سرقة من الجانب الأميركي، حيث إن تفسير اختفائها قد أصبح مشكلة عراقية. وهكذا يريد المشبوه الأول تبرئة نفسه ويلقيها على المشبوه الثاني.

هناك ملابسات غريبة تحدث أحياناً في التعاملات المالية الفاسدة، حتى في قضية إيداعات "نواب غيت" المليونية لدينا، بعضها يكون ظريفاً، وبعضها يكون لئيماً، وبعضها يكون ثقيل دم، وبعضها يكون بلا دم على الإطلاق،

أما مسألة فقدان 6.6 مليارات دولار والادعاء بسرقتها من طرفي العلاقة ثم اكتشاف مسارها وهي مازالت مختفية، من يدري قد يكون جزء منها قد دخل إيداعات في حسابات هنا أو هناك. فهي بحاجة إلى كاتب كوميدي ذي خيال واسع بسعة المسافة الشاسعة من واشنطن إلى بغداد.

إنهم حقاً لصوص لكنهم بلاشك ظرفاء.