- 1 -

Ad

لا شك أن هناك مخاوف كثيرة لدى معظم الناس، وخاصة النساء، من تولّي الأصولية-السلفية السلطة، في المستقبل القريب، في بعض البلدان العربية، التي نجحت فيها الثورات الشعبية، أو نجح فيها منهاج التغيير السياسي، كالمغرب مثلاً.

ومرد هذه المخاوف، يتأتى من كون الأصولية-السلفية الدينية ذات أضرار جسيمة، رأى فيها الفكر السياسي العربي مخاطر كثيرة، منها أن الأصولية-السلفية الدينية تُشكِّل عائقاً معرفياً، من حيث إن الصراع بين التراث والحداثة صراع سياسي مصطنع، وإن القائمين عليه، والمتولين أمره من الجانب الأصولي-السلفي هم طلاب الكراسي، ومن الساعين إلى القبض على المراسي، فالتراث يستوجب التغيير والتجديد والحركة، لكي يستطيع خدمة الحياة التي تستحضره، وإلا، فإنه يصبح تراثاً متحفياً للفرجة والتذكر، والحداثة هي"الحالة الناتجة عن تطور زمني، يسمح للوضع القائم المتجدد تلقائياً أن يُعبِّر بشكل أو بآخر عن روح العصر". فأين الخلاف في ذلك؟ وما موجبات الصراع إذن؟

- 2 -

إن الأسباب التي أدت إلى أن تصبح الأصولية-السلفية عائقاً معرفياً، تتلخص في ما يلي:

1- ترفض الأصولية-السلفية الحداثة، بما هي اعتراف بحريّة البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني، التي تصفها الأصولية-السلفية بالردة، ورفض الأصولية-السلفية للحداثة، ناتج عن أن الحداثة غلّبت العقل على النقل، بينما تتشبث الأصولية-السلفية بالنص، ولو كذّبته جميع الحقائق العلمية تكذيباً ساحقاً، ماحقاً.

2- تقوم الأصولية-السلفية بمكافحة العَلْمانية، ليس على الساحة الإسلامية فقط، بل هي تطالب بجبهة ثيوقراطية إسلامية– يهودية-مسيحية– عالمية لمكافحة العَلْمانية كما تكافح الأوبئة.

يقول راشد الغنوشي (زعيم "حزب النهضة" التونسي) في لقاء صحافي: "إن الظروف التي يعيشها العالم الآن، والتي تعرضت فيها القيم الروحية والمبادئ الدينية لخطر ماحق، مبررٌ لتوحيد جهود أتباع الديانات السماوية جميعهم، من أجل إنقاذ البشرية من مهاوي الهلاك". (جريدة "الراية" القطرية، 23-4-1996).

3- اعتبار الأصولية-السلفية البنت الشرعية للمجتمع التقليدي المتفكك، الذي أخفق في الانتقال من القدامة إلى الحداثة، فعادى الحداثة، وخاصة في ما يتعلق بتحديث التعليم والمعرفة، فعندما حدَّثت تونس تدريس التربية الدينية سنة 1990 كفّرتها "حركة النهضة" الأصولية-السلفية، بحجة أنه يجفف منابع الأصولية-السلفية. وطالبت بعزل محمد الشرفي وزير التربية الراحل آنذاك. ومازال راشد الغنوشي يطالب في كل مناسبة بـ"مراجعة الاختبارات التربوية" لإلغاء برنامج التربية الدينية المستنير، الذي هو مجموعة نصوص لمفكرين وكتّاب مسلمين، مثل القاضي عبدالجبار، وابن رشد، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، ومحمد إقبال، والطاهر بن عاشور، وقاسم أمين، وحسن حنفي، وعبدالله العروي... إلخ. لكن من يقرأ تكفير الغنوشي لهذا المنهاج، يتوهم أن نصوصه مقتطفة من "بروتوكولات حكماء صهيون".

- 3 -

إن واحداً من عوائق تقدم الحداثة في المجتمع العربي، وفي الفكر السياسي العربي، هو إشكالية التراث، وكيفية التعامل مع هذا التراث. هذا الضيف الثقيل الظل الذي لم يَدْعُه أحد إلى مائدته، إنه قدر الأمة العربية التي يجب أن تتعايش معه حتى تعيش، والهروب منه هو هروب إلى الأمام، وترتيب البيت معه أقل ضرراً من ترتيب البيت بدونه، وتجديد التراث أقل خطورة من إهماله، وإن كان التجديد يتطلب وقتاً طويلاً، وثمناً غالياً، فالتراث العربي ليس مجرد موضوع ما، إنما هو محور رئيس من المحاور التي دارت حولها إشكاليات سياسية، واقتصادية، وفكرية، واجتماعية كثيرة، ومنها إشكالية الحداثة. فقد ظل الفكر السياسي العربي حائراً، تائهاً، ملتبساً، غامضاً، متردداً في تعامله مع التراث.

وكان الفكر السياسي العربي يسأل نفسه دائماً، وطيلة القرن التاسع عشر، والقرن العشرين:

- كيف يمكن التعامل مع هذا التراث؟

- وما أنجع الطرق لاستخدامه؟

- وماذا يمكن أن نأخذ من التراث، وماذا يمكن أن نترك؟

- وماذا يمكن أن نُحيي، وماذا يمكن أن نُعدم؟

- ومن له كل هذه السلطات في الإحياء والإعدام، والأخذ والترك، والإهمال والاستعمال؟

- ومتى يمكن أن يتم ذلك، وما الآليات التي يجب أن تُتبع؟

ولا تزال كل هذه الأسئلة قائمة حتى هذه اللحظة دون إجابات قاطعة، ولا حلَّ لهذه المعضلة وهذه الإشكالية، وما زال الفكر السياسي العربي يدور حول هذه الأسئلة، دوران البغل حول حجر معاصر الزيتون، أو دوران الثور حول الساقية، ولكن دون نتيجة، ودون زيت يُنير، أو ماء يروي.

- 4 -

إن من عوائق تقدم الحداثة في العالم العربي اعتبار الأصولية-السلفية، أن الحداثة ضد التراث، وهادمة له، ومفصولة عنه، ومتناقضة معه، وهذا مفهوم خاطئ، فالحداثة لا بُدَّ لها من أساس، وأساسها هو التراث الصالح كأساس مكين، والذي يقوى على حمل كيان فكري وحضاري كبير كالحداثة.

كذلك، فإن من عوائق تقدم الحداثة في المجتمع العربي الفهم الخاطئ للتراث نفسه. فمعظمنا يفهم التراث على أنه فترة زمنية مقدسة ومحددة، وليس نصوصاً قابلة أو غير قابلة للتنفيذ في العصر الحديث، وعلينا أن نستعيد هذه الفترة المقدسة دون نقاش، ودون تمحيص، ودون غربلة، أو فرز، فلا نأخذ منها ما يُيسر حياتنا، ويدفعها إلى التقدم، ولا نترك منها ما يُعيق هذه الحياة، وسيرها إلى الأمام.

وينادي كثير من المفكرين السياسيين العرب بحسم موضوع الحداثة، كما ينادون بحسم موضوع "الأصالة والمعاصرة"، ولنعلم أن هذا الحسم ليس قرار المثقفين، أو السياسيين، بقدر ما هو قرار الزمن العربي نفسه، وقرار الحياة العربية نفسها، ونحن نعني بالزمن هنا، الحدث، أو الفعل في التاريخ، فمجيء نابليون إلى الشرق -مثلاً- في عام 1798، حسم مسألة الحداثة مبدئياً.

ومجيء محمد علي باشا والياً على مصر في عام 1805، كان قد حسم جانباً من الحداثة العربية في ذلك الوقت، والتي كانت حداثة بمقاييس القرن التاسع عشر، وعندما جاء نابليون، ومحمد علي باشا بالحداثة، لم يأتيا بها من خلال قرار إمبراطوري أو مرسوم، ولكنهما جاءا بها من خلال مجموعة من الأفعال، وحزمة من الإجراءات، ذات الصبغة الحداثية.

* كاتب أردني