كنتُ ولم أزل تخيفني الغربة كثيراً، وتمضّ في قلبي أنياب الوحشة. لذا أجدني أتردد في الإقدام على زيارة بلدٍ لا أصدقاء أو معارف لي فيه. وباكراً، من عمري، زرعتُ صداقات كثيرة قريبة إلى قلبي وفكري واهتماماتي الثقافية والفنية في كل مكان وصلت إليه. مثلما تعوّدت على عقد صداقات جديدة حيثما أحلّ ذخراً ورصيداً للحظة قادمة. ومع الأيام صار لي أهلٌ وأحبة تقرّ عيناي برؤيتهم حيثما أسافر، ويتجدد فرح اللقاء بهم، وسرعان ما ينبسط بيننا الحديث والشجن والهم.

Ad

حضرت الأسبوع الماضي في الشقيقة قطر، معرضاً تشكيلياً للفنان الإسباني العالمي "الفريدو بالميرو- Alfredo Palmero"، المولود عام 1966، وهو الفنان المعاصر الذي رسم صورة ملك إسبانيا (خوان كارلوس_Juan Carlos 1)، وصوراً ملكية أخرى. ويعتبر بالميرو من الجيل الثالث لسلالة آل بالميرو الفنية، حيث لُقِب جده بالمايسترو (1901-1991). ولقد عُرفت العائلة بعشقها لرسم الخيول، إضافة إلى موضوعات تخص وتجسد الحياة في البيئة والمجتمع الإسباني. ولعائلة بالميرو أكثر من متحف في برشلونة ومدن إسبانية أخرى.

على هامش المعرض التقيت الصديق الصحافي والإعلامي صالح الغريب، الذي تربطه بالكويت وشائج كثيرة ومتجددة، كما تمتعت بجلسة هادئة مع الروائي المبدع الصديق أمير تاج السر، وكعادته في سخائه الجميل أكرمني بإهداء آخر أعماله، وكان أن قابلت في المعرض الإعلامية المتألقة ليلى الشيخلي.

من يزور الدوحة في هذه الأيام يرى أنها ورشة عمل كبيرة، تعج بمختلف الأنشطة، العربية والعالمية، الاقتصادية والسياسية والفكرية والفنية والرياضية وغيرها.

ولأن الزمن يكتسب طاقة وزخماً مختلفين في زحمة وتنوع الأنشطة، فلقد سعدت بمقابلة سعادة الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري، وزير الثقافة والفنون والتراث، في حضوره حفلة الفرقة الكوبية، وكان كعادته في تواضعه الجم وابتسامه وترحيبه الدائم بضيوفه وأصدقائه.

ما كان لزيارتي لقطر أن تكتمل دون لقاء الصديق الفنان التشكيلي يوسف أحمد، المسكون بعشق اللوحة، وعشق التجديد، وعشق مغامرة الحياة. يوسف أحمد، اصطحبني "للغاليري" الخاص به، ليطلعني على آخر إنتاجه، وكم أدهشني لحظة فاجأني بتجربته الجديدة في تطويع سعف النخل، ليكون ورق رسمٍ من الطراز الأول.

أعرف عشق يوسف للخط العربي، وأعرف رحلته في تخيّر أوراق معينة من كل الدول التي يزورها، لتكون حضناً لخطوطه ورسوماته وتشكيله. لكن التفاتة يوسف لنخلة بيتهم الأحب، هي تجربة تستحق الوقوف عندها وتقديرها بما تستحق.

بهدوء يقول يوسف: "النخلة رمز للعرب والعربي، تربيت والنخلة أمامي، وكم عقدت من صدقات مع سعفها وظلها ورطبها وتمرها، وها أنا أقترب أكثر منها أدخل في تجربة لتطويع سعفها ليكون ورقاً يضاهي أجود أنواع الورق العالمي".

في استماعي ليوسف، قال إنه يجفف السعف تحت أشعة الشمس، شمس الخليج الحارقة، ومن ثم يقطع الخوص، وبعدها يصهره مع مواد خاصة، ليستخرج منه عجينة صالحة لأن تكون ورقاً بأعلى المواصفات والمقاييس العالمية. وكم هي ثرية ومتفردة وحميمة، تلك الرحلة التي قطعها يوسف ليقدم لوحات فنية مشغولة بسر القلب والخط والفن وورق سعف النخيل، نخيل الوطن والحب.

يقول الناقد الفني فريد زاهي: "يمكن اعتبار يوسف أحمد التجربة الفتية للفن القطري وأحد علاماتها البارزة التي دفعت حثيثاً للخروج من القطرية إلى احتضان أفق الفن العربي الشاسع وآفاق الفن العالمي الواسعة".

رحلة الفنان يوسف أحمد التشكيلية، العربية والعالمية، غنية لا يوفيها حقها مقال عابر، لكن حماستي لفكرة إعادة استخدام سعف نخيل، يُرمى إلى قارعة الطريق والاستفادة الفنية اللافتة منه، تحتم عليَّ أن أقول ليوسف، أهنئك من القلب أيها الصديق، وأشد على يدك.