يستبشر بعض الناس بأن صناديق الاقتراع الديمقراطية بعد الثورات العربية قد جاءت بالإسلاميين، وأن التجربة أثبتت أنهم المطلب الحقيقي للشارع العربي والهزيمة النكراء للتيار الليبرالي، متناسين حقائق مهمة أن صناديق الاقتراع ليست سوى ممارسة ليبرالية ضمن آلية فكرية كانت مرفوضة من قبل الفائزين بها، وثانياً وهو الأهم أن صناديق الاقتراع في العملية السياسية وسيلة لا غاية، وأنها واحدة من ممارسات عديدة وليست النتيجة الوحيدة والمشروعة، فالانتخابات المصرية تم اختراقها بتجاوزات غير قانونية عديدة من شبهة التمويل إلى شراء الأصوات وإقامة أحزاب ذات صبغة دينية، ولا أدري كيف يمكن أن نقول إن الأحزاب الإسلامية قد فازت وهي تتمثل في عباءة ليبرالية كما في حزبي تونس ومصر.

Ad

وإن كان البعض يقول إنها مجرد ادعاءات، لكن نُحسن الظن ونقول إنها مبادئ حقيقية، حين يتنازل الحزب الإسلامي عن مشروعه الثقافي الذي هو مشروعه السياسي الوحيد ويعلن أنه سيكف عن التدخل في صياغة الناس ثقافياً، فهذا يعني أنه لن يكون سوى حزب مثله مثل كل الأحزاب، ولن يتصدى إلا لمشروع سياسي قائم على توخي العدل والمساواة واحترام خصوصيات الناس وحريات اعتقادهم وتعبيرهم، وإن قالوا إن هذه هي مبادئ إسلامية حقة فلماذا كانوا يصمون من يطالب بها بأنه صاحب نهج ليبرالي.

اختلط حابل الإسلامي بالليبرالي، فصار الإسلاميون ليبراليين، فمن الذي فاز في الأخير، هل الإسلاميون الذين تمثلوا بقيم ليبرالية أم المبادئ الليبرالية التي ظهرت في عملية ديمقراطية سياسية هي قيام الأحزاب وصياغة دستور قائم على فصل السلطات وقيم الحرية والتعددية؟

رغم أن الثورات العربية التي خرجت إلى الشارع في مدن عربية لم ترفع سوى عناوين رفض الاستبداد ورفض توريث الحكم ومحاربة الفساد والرغبة في التمثيل السياسي لكل التيارات، فإن الشعب الذي خرج للتصويت هو كل الشعب لا كل الثوار، وبعضهم لا يعرفون من مطالب الحياة سوى مطالب العيش اليومي وتأمين فرص عمل وسكن وضمان صحي، لأن الثورة بكل بساطة قادها وعي، وشارك في انتخاباتها وعي آخر أبسط من الوعي الذي فجرها.

صحيح أن الثورة لم يكن لها أب ولا قائد، لكن كان لها ملامح ليبرالية معروفة، وهذه المبادئ قد يلتزم بها الحزب الإسلامي الفائز وقد لا يلتزم، وإن كان هناك من يقول إن ثورات الشعوب العربية التي قدمت شهداءها قد اختُطفت، فهذا اعتراف بأن النزاهة هي آخر صفات الحزب الفائز، فهو تعامل مع مكتسبات الثورة كغنيمة طالما عرف كيف ينالها فهو أحق بها، وهذا هو مبدأ الغلبة لا مبدأ الديمقراطية.

من حسنات الديمقراطية أنها تحرر العقل والإرادة والحرية عند كثير من الناس لكن من مساوئها أو من ضمن أعراضها الجانبية أنها تحرر وحوشاً ولصوصاً و"فهلوية" متى ما تمكنوا من كسب الأصوات فإنهم يفوزون. بيننا وبين الديمقراطية الحقيقية طريق طويل من التربية السياسية والاجتماعية وضمان عدم تجاوز الشروط الأصيلة للحياة السياسية بدستور لا يكتبه الفائزون وتحرسه قوة شرعية هي الشعب، لكن هذا الطريق لا يمكن تمهيده دون عيش أخطائه، وهذا بالمناسبة يأتي رداً على كل من يظن أن معالجة الخطأ هو في البكاء والترحم على ما سبق، إن معالجة الخطأ تأتي بتبصره وعلاجه لا بالارتداد إلى ماض كان أقل منه سوءاً.