لأول أشعر بها... السكينة التي تملأ الروح.., تعبئها إلى الحواف بالشبع، لأول مرة أصل إلى هذا الشبع.

Ad

الشبع الذي أفتقده طوال حياتي المستعرة بالجوع، جوع حاصرني منذ الصغر من خطوات الطفل الأولى، ومن إدراكه للفطام، من أول درجات الحرمان.

جوع يكبر، ينمو، يشب، تظهر له أنياب وعضلات، يهاجم، يكر ويفر، ويضرب، لا طريقة، ولا علاج، ولا مسكنات ولا مصدات تردعه.

جوع نهم يخرج من ثقوبي ومن مسامي، ومن حواسي كلها، أملؤه بكل ما يحتاج إليه، كل ما تريده هذه الأجهزة النهمة، وبكل ما تهواه وتعشقه، والتي لا تعرف متى تصل إلى الشبع.

كنت أود أن أصل إلى شيء أبعد من جوع هذه الأجهزة ومن فراغها الذي لا يمتلئ.

شيء مجهول غامض في سره ومصدره، هو أبعد من جوع المعدة التي ألقمها بالغذاء، وأبعد من هرمونات الأنوثة التي تهز جوع الأنثى بي.

هو في ذاك البعد الأوسع والأشمل، والمتخلص من كل قيود أسره البيولوجية، والمتحرر من كل أنواع الأجهزة التي تغتصب إرادته ومشيئته.

كنت أصبو إلى ذاك التحرر المنسلخ من قيود كل الشهوات التي لا تصل إلى إدراكها للشبع، انفلات إلى جوهر الحرية المجردة بذاتها، غير المقيدة برغبات بطن أو معدة أو بغواية جسد.

الجوع المفترس الغول الساكن بي، اللابد في حواسي وفي أطرافي، ومجساتي كلها.

الجوع المهاجم الذي يتخطفني في الليل والنهار، ويتعاقب على افتراسي في أية لحظة، وفي أي مكان كان، والذي لم أكن أعرف كيف أداويه، وكيف أشكمه، وكيف أشد له اللجام.

الجوع العاصي والمتمرد عليّ، فجأة اكتشفت سره ووجعه، وموطن دائه الذي أنهكه طوال سنين مضت بفراغها الهائل من كل جوهر، أو معنى لهدف عظيم. كان الفراغ في داخلي أبعد من امتلاء المعدة أو من تخمة جسد.

كان الفراغ هائلا يدور في دوامة ضياع، تبحث له عن باب ومخرج ومعنى، فراغا يأكل الأخضر واليابس، ولا يصل إلى مخرج، ولا يدرك الهدف ولا المعنى، حتى استحوذ عليّ بجوعه الباحث عن السبب، إلى أن جاءه السبب، موت «ضاري» لم يكن موته هو السبب، لكنه كان الوسيلة التي قادتني إلى السبب، موته الفاجع اجتاحني من الوريد إلى الوريد، موته المباغت في عز فورته وسطوته وقمة أوجه، هزني من قاع جذري المحنط في سبات نوم طويل، وأيقظ إحساسي من بلادة راكدة في زيف بريق عمره قصير.

انسلال الروح على سهو من دون تنبيه أو قرع أو استئذان، الانسحاب الصامت الغادر المخيف، الموت الذي اجتاحه في ومضة قبل أن يرتد إليه طرفه، قبل أن يعي زيف الرغبات السادر في وحشيته وعتو جوعه، ولمعان كذبته.

ذهول ورهبة وخوف، وقلب مشطور بالفزع، متصدع من هول الموت الآتي في انصباب الدفقة الأخيرة، رعشة الحب المتوجة في موتها، تموت فيّ، على جسدي توحدت رغبة الحياة وعنفها في سكون موتها.

يغيب ضاري، يسكن عنفه وهدير طاقته، وجيشانه وضراوة رغباته ووحشيته، كل هذا الطوفان المكتسح الهادر الذي لم يُخلق له مكبح ولا قيود تقيده. هذا الضاري بكل ما يقول له كن فيكون، أو استوِ فيستوي، يهبط في هبوطه الأخير، هبوطاً، لا قيام بعده.

ويترك لي السؤال، السؤال الذي لم يستطع إخراجه من فمه، لم يصل إلى حباله الصوتية، لم يتمكن من النطق به، اختنق في تلك اللحظة المأزومة، سؤال حائر تأرجح ولم يكتمل، سؤال اختنق في مكمنه، وابتلعه الأزلي الموحش والغائب والبعيد.

توقف على شفته التي عضها بأسنانه، وسكت، ما الشيء الذي كان يود أن يقوله؟ ما الموضوع الذي كان يريد أن يعلمني إياه؟ ما هي رسالته الأخيرة التي ود أن تصلني؟ ما الذي رآه في الشهقة الأخيرة حتى عض ندما على شفته؟ ما الذي تريد أن تخبر به يا ضاري؟

كان هناك في عضة شفتك شيء لا يشبه الاسترحام ولا الندم، شيء مشوش يبعث على الحيرة، وينبش في الرأس كل الأسئلة.

ما الذي كنت تود أن تقوله؟

أخ كم عذبني هذا السؤال، كم ذبحتني تلك العضة المحيرة، وكم طوحت بي بين دهاليز الشك واليقين والخوف من تلك اللحظة الرهيبة.

* النص مقطع من رواية سلالم النهار