وجهة نظر: دعوة إلى موازنة البرامج في ظلمة هذا الإحباط!
لم ترفع اللجنة الاستشارية لبحث التطورات الاقتصادية التي كلفها صاحب السمو منتصف شهر أغسطس الماضي بتقديم مقترحات تقود إلى اعتماد حزمة من الإجراءات تكفل تصحيح مسار الموازنة العامة للدولة، وتفعيل دور القطاع الخاص في تحمل مسؤولياته في المساهمة الفاعلة في النشاط الاقتصادي ومعالجة الاختلالات التى تعوق الاقتصاد الوطني، لم ترفع تقريرها المرتقب في الموعد الذي حدد لها. ويبدو أن اللجنة بحاجة إلى زمن إضافي قبل أن تضع اللمسات الأخيرة على هذا التقرير، وذلك أمر طبيعي في ضوء المهمة الكبيرة والشائكة التي كلفت بها. وكنت قد أشرت في مقالة سابقة إلى أن هذه اللجنة تعمل وسط أجواء لا تحسد عليها، إذ تصطدم بصخرة سياسات عامة ترسخ كل يوم مزيداً من الاختلالات في الموازنة العامة، ومزيداً من الضعف في الدور الاقتصادي للقطاع الخاص.وفي ظل غياب أي من المؤشرات الإيجابية في الساحة الاقتصادية المحلية فإن اهتمام الفعاليات الاقتصادية والمستثمرين وترقبهم لما ستسفر عنه أعمال اللجنة الاستشارية من نتائج وقرارات قد تنعش النشاط الاقتصادي المحلي، وتخفف من حالة التشاؤم والإحباط الراهنة يصبح مشروعاً ومبرراً. وكنت أتمنى، لو أن الدولة قد أوقفت عجلة القرارات المتعارضة مع الأهداف التنموية خلال فترة عمل اللجنة، وتريثت حتى تنجز هذه اللجنة أعمالها وترفع تقريرها إلى صاحب السمو، لأن معظم القرارات التي اتخذت خلال فترة عمل اللجنة، وهي فترة قصيرة بالقياس إلى حجم المهمة، تتقاطع وتتعارض مع خطوات الإصلاح الاقتصادي المنشود، وتعمق من اختلالات الموازنة العامة، وتضاعف من تضخم وهيمنة القطاع العام على حساب القطاع الخاص، وتقود إلى ما حذر منه صاحب السمو، وهو يكلف هذه اللجنة بأعمالها، إذ حذر بالتحديد من «سوء استغلال الفوائض المالية وعدم استثمارها في الوجهة الصحيحة»، ومن «الإفراط في زيادة الإنفاق الجاري غير المنتج».
لقد كان من بين أهم التوجهات التي سبق تداولها وبحثها منذ سنوات في الكويت مقترح تحويل نمط إعداد الموازنة العامة من موازنة بنود إلى موازنة برامج، وذلك بهدف معالجة الاختلالات التي تعانيها هذه الموازنة، وتعظيم فاعليتها، وأثرها في الأداء الاقتصادي للدولة، ولست أعرف السبب الحقيقي وراء عدم تفعيل مثل هذا التوجه رغم ما يمتاز به من إيجابيات. إن نمط موازنة البنود هو من أقدم أنماط الموازنات العامة، وقد تخلت عنه دول عديدة في مختلف أرجاء العالم، وتبنت أنماطاً أخرى. وقد تولدت الأنماط الأخرى من خلال مسيرة التطورات الهامة التي شهدها علم المالية العامة على مدى نصف القرن المنصرم، ونتيجة لإدراك الدور الاقتصادي الكبير للموازنة العامة وتأثير نمط إعدادها وبنائها ومكوناتها على تطور الدولة ونموها، بحيث باتت الموازنة أداة تخطيطية فعالة ووسيلة لتجنب مخاطر الأزمات والتقلبات الاقتصادية، وتعزيز الشفافية ونظم المساءلة.إن من بين مساوئ موازنة البنود اعتمادها على رصد مخصصات عبر مكونات جامدة محددة سلفا، وتفتقر إلى الديناميكية والمرونة، ولا تأخذ في الاعتبار توجيه المخصصات إلى مهام ومسؤوليات واضحة ذات أهداف متفق عليها تتوافق وتتسق مع متطلبات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتتسم بقدر من المرونة اللازمة التي تقتضيها طبيعة التحولات والتغيرات السريعة التي باتت سمة من سمات عالمنا المعاصر، كما أنها لا ترتبط بمؤشرات قياس علمية دقيقة وملزمة. بينما تتميز موازنة البرامج بكل هذه المزايا، وهي تمكن من المحاسبة والمساءلة على نحو أكثر شفافية ودقة، وأثق أن تقرير اللجنة الاستشارية قد تبنى مثل هذا التوجه كأحد المخارج المتعلقة بشق اختلالات المالية العامة، ونحن منتظرون.*أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت