الثورات العربية أمام عقبات المجتمع المدني

نشر في 30-11-2011
آخر تحديث 30-11-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي - 1 -

بناء المجتمع المدني من العقبات الصعبة، التي واجهت الثورات الأوروبية في فرنسا، وإنكلترا، وكذلك في أميركا، فالديمقراطية المنشودة من قبل ثورات القرن السابع والثامن عشر، لم تتحقق إلا عندما اكتمل بناء المجتمع المدني أو كاد، في تلك البلدان، وهو المأزق الذي يواجه الثورات العربية الآن.

فسقوط الأنظمة الدكتاتورية القروسطية العربية، وقيام أنظمة سياسية بديلة ليسا هما نهاية الطريق بالنسبة إلى الثورات العربية، وهو ما نراه الآن واضحاً في مصر -مثلاً- بعد ثورة 25 يناير 2011.

وعلى الثورات العربية، التي انتصرت، والتي في طريقها إلى النصر، أن تُشمِّر عن ساعديها، لبناء الديمقراطية التي لن تقوم إلا على أساس وقواعد المجتمع المدني، فالمجتمع المدني أولاً، والبناء الديمقراطي ثانياً.

- 2 -

إن هذا كله سيتطلب جهداً استثنائياً من الثورات العربية، بينما لو علمنا أن عوائق إقامة المجتمع المدني في أي مجتمع كثيرة، وشائكة، ومنها:

1- عدم تحول الحكم إلى مؤسسة دستورية.

2- عدم تشرّب الحاكم لثقافة التداول على الحكم، رغم أن تداول الحكم نص قرآني كريم ﴿وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾ (آل عمران: 140).

3- عدم تعوّد المعارضة، على تقديم المقترحات والبدائل غير "التعجيزية"، للوصول إلى التوازن الضروري بين السلطة والسلطة المضادة (المعارضة).

4- وجود عجز متبادل في الحوار بين السلطة والمعارضة، مما سبب ويسبب مشروعاً قوياً لتطاحن داخلي، مفتوح على المجهول.

5- عدم اطلاع الحكام في العالم العربي والإسلامي على تجارب الشعوب الأخرى، واحتكاكهم بها.

6- اعتبار الثقافة السياسية العربية والإسلامية للمعارضة أنها خائنة، وأنها تهدد وجود الحاكم.

- 3 -

إن أسئلة مستقبل المجتمع المدني العربي ستنتصر، فيما إذا كنا نسير اليوم نحو حقبة التحرر من المفهوم الكلاسيكي الحديث للدولة كمركز أحادي ووحيد للتنظيم والتنسيق الاجتماعي، وهي الحقبة التي دامت أكثر من قرنين. وهذا التحرر من المفهوم التقليدي للدولة، لا يعني بالضرورة زوال الدولة، إنما زوال شكل من أشكالها. لكن الأهم من ذلك، هو معرفة طبيعة الهيئات والتنظيمات والمؤسسات التي ستحل محلها، وتُشكِّل جماع نشاط القرن القادم كله، وربما القرن الذي يليه.

إن العودة الراهنة إلى المجتمع هي موجة عميقة الجذور، لكن طرق هذه العودة وأشكالها والنماذج التي ستنجم عنها، كل ذلك

لا يزال في بداياته الأولى.

والسؤال:

هل ستساعد هيئات المجتمع المدني، أو بالأحرى بناء المجتمع المدني بمعنى الهيئات الأهلية الناشطة في ميدان العمل العام، على إيجاد مجتمع أكثر تحرراً، وعلى توافق أكبر بين حرية الفرد وحرية المجموع، واتساق أكبر بين مسؤولية الحاكم ومسؤولية المحكوم؟

- 4 -

سوف نسير خلال هذا القرن الذي قامت فيه ثورة المعلومات والاتصالات، نحو شكل من التنظيم المدني، تخضع فيه السياسة من حيث هي بلورة للتصورات والاختيارات، التي تمس المصير العام والمصائر الجزئية أيضاً، ومن حيث هي قرارات ترمي إلى تطبيق هذه الاختيارات لنشاط مجموعة لا محدودة من التجمعات والهيئات والتنظيمات المدنية غير الحكومية، وأن الحكومة التي تحتل مراكز القرار السياسي الرسمي، لن يكون دورها سوى التنسيق بين نشاط هذه الهيئات والمنظمات وإيجاد القاسم المشترك فيما بينها. ومن هذه الزاوية، ستقدم هيئات المجتمع المدني المتعددة الجديدة إطاراً يتيح للمواطنين المشاركة بشكل أكبر وأنشط، في تقرير مصيرهم، والمساهمة بصورة أقوى في السياسة من حيث هي انشغال بالمصير العام، وممارسة للقرارات التي تمسه. وسينشئ ذلك دائرة للمشاركة السياسية، موازية للدائرة التي يمثلها البرلمان، والقائمة على عملية انتخابية إحصائية محضة، لا تعكس حقيقة الإرادات المجتمعية القائمة والمتنافسة على تشكيل السياسة، بل دائرة تتجاوز الدائرة البرلمانية وتخضعها لها، سواء عبر الضغوط، أو عبر التدخلات المباشرة في تكوين الرأي العام، كما يقول المفكر السوري-الفرنسي، والناشط السياسي برهان غليون.

- 5 -

ويرى برهان غليون، أن منظمات وهيئات المجتمع المدني سوف تزداد نفوذاً وقوة، خاصة تلك الناشطة على الصعيد العالمي، أو المتعددة الجنسيات، في تلك المجتمعات التي خسرت الرهان على الدولة، ولم تنجح في بناء مجتمع مدني قوي. وهذا هو وضع البلاد العربية والعديد من البلاد النامية، فكما أن الدولة لن تستطيع هنا أن تقاوم ضغوط هذه المنظمات، التي تزداد مزاعمها بالمشاركة في تقرير السياسات العالمية، كذلك فإن المجتمع المحطم والمفكك الذي نشأ في حضن مثل هذه الدول اللاقومية، سيكون إما عاجزاً عن بناء نفسه وهيئاته الخاصة النشيطة، وإما غير قادر على المشاركة الفعالة في الهيئات المدنية العالمية الفاعلة على أرضه الوطنية ذاتها.

- 6 -

ونستطيع الآن، أن نلخص الانهماك الكبير– إن وُجد- من قبل الثورات العربية بقيام المجتمع المدني، في الأسباب التالية:

1- الانهيار الكامل للدولة الشمولية المتمثلة بالاتحاد السوفياتي. فإعادة بناء المجتمعات المدنية بعد 1991، أصبح ضرورة ملحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، فلقد كان الاتحاد السوفياتي عقبة رئيسة في وجه إقامة المجتمعات المدنية في دول أوروبا الشرقية، وباستثناء الكنيسة الكاثوليكية في بولندا، لم يكن هناك أي مظهر من مظاهر المجتمعات المدنية في أوروبا الشرقية.

2- إدارة الصراعات السياسية في أنحاء متفرقة من العالم سلمياً، واللجوء إلى الحلول السلمية، أو ما يُعرف بـ"ثورات الحرير".

3- ارتباط قيام المجتمع المدني بتطبيق الديمقراطية، وإتاحة الحرية، وبناء التنمية.

ففي العالم العربي، لم يقم المجتمع المدني بعد، رغم ما حصل من تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية في العالم المحيط بالعرب، بل إن المثقفين العرب زادوا على ذلك، بأن أفسدوا مصطلح المجتمع المدني، وأثقلوه بما لا يحتمل من معانٍ وممارسات، لدرجة فقدان هذا المصطلح معناه، ومرماه.

* كاتب أردني

back to top