أدب الرسائل المتبادلة بين الكتاب عادة ما تكون وفيرة في الأدب الإنكليزي، مجلدات برناردشو في هذا الحقل ليست استثناءً. ونادراً ما يخلو كاتبٌ من هذه الفاعلية التي تُضاف إلى فاعلية إبداعه، لا لأنها تلقي إضاءات غنية على حياته وكتاباته فقط، بل لأنها ذات قيمة إبداعية في ذاتها، وقراءتها متعة لا تُعوّض.

Ad

 ولكن المجموعة الصغيرة من الرسائل التي بين يدي (110 صفحات، ترجمها إلى الإنكليزية جون فَلستِنر) بين الشاعرين بول تسيلان ونيللي ساخس تبدو استثنائية، لأن هناك أكثر من عنصر مقاربة بينهما، فالشاعران عالميان أولاً، وبالرغم من فارق العمر بينهما، حيث تكبره ساخس بقرابة ثلاثين عاماً، فإنهما ماتا في زمنين متقاربين تماماً (تسيلان في نيسان وساكس في مايو) من عام 1970، وإلى جانب هذا حقق بول تسيلان شهرة شعرية أوسع بعد انتحاره، في حين حازت ساخس جائزة نوبل عام 1966.

لقد كان تسيلان هو الذي ترجم قصائدها وقرأها في باريس في احتفال المناسبة، إلى جانب أن تعرضهما لأذى القمع النازي لليهود إبان الحرب العالمية الثانية جعل روحيهما بلون رمادي بفعل عتمة الانهيارات النفسية طوال حياتهما، إن وحدة الخبرة في الحياة جعلت قصائدهما، ورسائلهما بالتالي، ذات رؤى وحساسية مشتركة، كانت الألمانية لغتهما الأم، وبالرغم من أنها لغة الجلاد عرفا كيف يروضانها ويجعلانها سلاح مقاومة إبداعية ضد رعب مشترك، لقد أصبح تسيلان وطنَ ساخس، على حد تعبيرها، وإنهما "ينتسبان معاً إلى وطن مشترك غير مرئي".

    كان بول تسيلان روماني المولد، وحياته منذ الطفولة المبكرة حتى انتحاره غرقاً في نهر السين سلسلة أذى بالغ القسوة: محيط معادِ للسامية، احتلال سوفييتي، قمع نازي، معسكر اعتقال، ترحيل وفقدان الأبوين، وقد قُتلا في تلك المرحلة من صباه، هرب إلى بوخارست، ثم فيينا، ثم إقامة في باريس عام 1948، ثم سلسلة من انهيارات عصبية، ثم خلاص بالانتحار.

    نيللي ساخس كانت نسبياً أوفرَ حظاً، فقد ولدت في برلين لعائلة ثرية، ودخلت مدارس خاصة، ولكن مزاجها لم يكن منسجماً مع المحيط بحيث سمّت مرحلة طفولتها بـــ"جحيم العزلة"، هذه الطفولة سرعان ما ارتبكت في السابعة عشرة حين أحبت رجلاً غير يهودي، واضطرت إلى حياة قاسية سنتين، في قصيدة مبكرة تكتب: "ومذاق الحياة أبداً مذاق وداع". هذا قبل أن تتذوق جحيم القمع النازي الذي بدأ معها في 1938 كان حبيبها مقاتلاً ضد النازية، وقُتل أمامها، بعدها اضطرت إلى الهرب مع أمها المريضة، قبل اندلاع الحرب بقليل، إلى ستوكهولم، وأقامت هناك. 

    وكما تشير مراسلاتهما في هذا الكتاب، كان كل منهما يتحمل جراح وندوب المرحلة بروح رواقية عالية، كانت محبة ساكس لتسيلان محبة أمومة: "أود لو أوفر لك الحماية من أحزانك"، تكتب له، وتبادل التأثير انعكس على قصائدهما أيضاً. فحين ترجم لها قصيدة "كورس الحجارة" ونشرها في باريس، والتي تقول فيها: "نحن حجار.. وكل من سعى لرفعنا يرفع ملايين من الذكريات"، انعكست الصورة في قصيدة له، وكأنه يجيب: "إن أياً من الحجار سترفعين ستتركين عراةً أولئك الذين يحتاجون إلى حماية الحجار".     

    إن مراسلاتهما التي امتدت 16 عاماً تنطوي على دينامية لافتة، وعلى رقة هي وليدة حاجة يائسة إلى الصداقة الحميمة، التي يتوق إليها الناجون من الموت، في رسائلهما، وخاصة تلك التي كتبتها ساكس، وهي الأكثر عدداً والأكثر حرارة في المجموعة، بعد أن تعرضت للانهيار العصبي والمعالجات الطبية الطويلة، يشعر القارئ بهذا العراك المستميت ضد العزلة ورعب الظلام المطبق، على أن رقة النبرة المضحية سرعان ما تسود، في حين تكشف الرسائل التي كتبها تسيلان، والتي كُتبت خلال العطلة التي قضاها في منطقة بريتاني، عن مشاعر أب فخور بأبوته، وألمعية بالغة الرهافة.