على هامش ندوة القرين الثقافية (1)
على امتداد 12 ندوة حول «الواقع العربي الجديد: تأصيل واستشراف» (ندوة الفكر داخل مهرجان القرين الثقافي)، التي تزاحم فيها المشاركون من كل ركن عربي، وتزاحمت فيها وجهات النظر المتوافقة والمتعارضة، كنت أتبين حلقتين مفقودتين عبر سلسلة الحوار الغني، الذي سعى برشاقة إلى الإحاطة بالحدث الكبير «الربيع العربي»، جذوراً، وحاضراً وتوقعات. ولأن الوقت المسموح للمداخلات بالغ الضيق، فضلت أن أتبسّط في عرض الحلقتين المفقودتين داخل حديثي الأسبوعي هذا. الحلقتان اللتان رأيتهما مفقودتين في سلسلة حلقات الحوار، هما حلقة «نقد الذات» لا الآخر في موقف المثقف العربي النقدي، والحلقة الثانية التي تخص حدث التغيير في العراق عام 2003.
هناك إجماع واع، في حوار الندوات، على ضرورة التزام المثقف العربي بـ»الموقف النقدي» الموضوعي من جذور الحدث، وحاضره، وآفاق مستقبله (الموقف النقدي من الآخر). وفي المقابل هناك إجماع غير واع على إغفال مسألة التزام المثقف بـ»الموقف النقدي» من الذات. هذا الموقف الذي لا يمكن أن يتوافر دون مواجهة «ذات» ملتبسة داخل التساؤلات والحيرات، والحوار معها. وذات المثقف ذات ملتبسة بالضرورة. لأن المثقف في جوهره هو كيان نابه، يسعى إلى اكتشاف هويته، أو معرفتها على حد مقولة «اعرف نفسك» الشهيرة لسقراط. ومن يسعى هذا المسعى غير الكيان الملتبس؟ المثقف العربي، داخل مشاق بحثه، يُنضج فكرةً يحرص على أن تنتمي إليه. ومن ثم يسعى بها إلى مواجهة الآخر، والحوار معه (مثقفاً كان هذا الآخر، فكرةً، تياراً، واقعاً أو حياةً برمتها). وهو، حتى في دعوته الصادقة للانفتاح على (الآخر)، لا يُفرّط في حرصه على مناعة موقفه من الضعف. يجب أن يُقبل على (الآخر) متعافياً، وبكل عدة المحارب. إن المعترك مع الآخر يتطلب انتصاراً بالضرورة. الذي يجعل قراءتنا لسير الكتاب العالميين مُلهمة ومؤثرة، بغض النظر عن انتسابهم لهذا الحقل المعرفي أو ذاك، هو معتركهم وحوارهم (الداخلي) الذي لا يهدأ. نستعيد التياع أوغسطين، مونتين، شوبنهاور، كيركغارد، نيتشة، هولدرلين، ديستويفسكي، تولستوي، هيسة، توماس مان، همنغواي، ريلكة، كافكا...الخ. ولا ننسى تفاصيل هذا الالتياع بمتعة القارئ المحترف. ولكنا نغض الطرف عن قيمة هذه الطبيعة (الداخلية) لحوارهم. ما من أحد منهم كان يسعى لإقناع (آخر)، قدر محاولة إيجاد مخارج، وتحقيق هارموني، للهب التساؤلات الداخلية. وما الحضارة الغربية التي بدأت منذ عصر النهضة إلا وليدة المعترك الداخلي، والحوار الداخلي، والنقد الموجه للداخل. نحن، في ثقافتنا العربية، نملك موروث المثقف الذي خبرَ هذا المعترك. نملك الشاعر أبا العلاء المعري الذي لا تهدأ حرب الأضداد في داخله، على حد تعبيره. ونملك الناثر أبا حيّان التوحيدي المولع بالتحديق في ما يسميه التباس الإنسان على الإنسان. ولكننا لا ننتسب إليهما عن رضا العارف. بل نفضل الانتساب إلى المتنبي ذي المعترك الدائم، المحتدم، ولكن مع الآخر. إن من لم يختبر هذا الحوار النقدي الداخلي، من لم يواجه مرآة ذاته، وشركَ التباساتها، من لم يُمتحن بالأسئلة، لا يملك من عدة المعترك الخارجي، إلا ما يملكه دون كيشوت. أحد المحاورين ألقى على عجل رأياً بصيغة محتجة، يدعو فيها المثقف إلى أن يغير ما بنفسه، لكي يغير أصلاً. ولكن أحداً لم يأخذ احتجاجه مأخذ الجد. كان احتجاجه في صلب محور «الموقف النقدي» للمثقف. ولكن الاستدارة إلى الذات أولاً لا تبدو في عين ثقافتنا إلا إثارة للشغب، غير مرغوب فيها. أعتقد أن الأفكار النقدية المؤثرة، والمغيرة هي تلك التي تختمر في أتون هذا الحوار النقدي مع النفس. إن رؤية جذور «الربيع العربي»، وحاضره، وآفاقه لا يمكن أن تتضح للعقل الايديولوجي، الذي ابتنى حصن معتقده النظري في غمرة حواره وصراعه مع الآخر. بل تتضح للكيان الحي الذي يعرف أنه أسهم، سلباً أو إيجاباً، في جذور هذا الربيع، وفي حاضر هذا الربيع، وسيسهم في آفاق مستقبله بالضرورة. هذه الرؤية لا تتضح لكيان المثقف الحي فقط، بل تغمره بمشاعر المسؤولية أيضاً. مشاعر الرضا أو مشاعر الذنب. لأن كل الذي حدث لا ينفصل عن تيار حواره مع نفسه، وصراعه مع نفسه.