كيف نمنع الكساد؟

نشر في 07-10-2011
آخر تحديث 07-10-2011 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كانت السياسات الخاطئة التي انتهجت أثناء أزمة الكساد الأعظم الأولى سبباً في اندلاع الحروب التجارية وحروب العملة، والتخلف عن سداد الديون على نحو غير منضبط، والانكماش، واتساع فجوة التفاوت بين الدخول والثروات، والفقر، والكساد، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي أدت في نهاية المطاف إلى صعود الأنظمة الاستبدادية ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية.

تشير أحدث البيانات الاقتصادية إلى أن الركود بدأ يعود إلى أكثر الاقتصادات تقدما، حيث بلغت الأسواق المالية الآن مستويات من الإجهاد غير مسبوقة منذ انهيار ليمان براذرز في عام 2008. بل إن مخاطر اندلاع أزمة اقتصادية ومالية أسوأ من سابقتها- والتي لن تشمل القطاع الخاص فحسب الآن، بل أيضاً الدول ذات الديون السيادية والتي اقتربت من الإفلاس- أصبحت كبيرة للغاية. ما الذي بوسعنا أن نتخذه من تدابير إذن للحد من التداعيات التي قد تترتب على انكماش اقتصادي آخر ومنع الانزلاق إلى حالة أعمق من الكساد والانهيار المالي؟

أولا، يتعين علينا أن نتقبل حقيقة مفادها أن تدابير التقشف، الضرورية لتجنب تحطم القطار المالي، سوف تخلف تأثيرات انكماشية في الناتج، وعلى هذا فإذا تم إرغام البلدان الواقعة على المحيط الخارجي لمنطقة اليورو على التعهد بتنفيذ تدابير التقشف المالي، فيتعين على البلدان القادرة على تقديم حوافز قصيرة الأمد أن تسارع إلى ذلك، وأن تؤجل تنفذ تدابير التقشف الخاصة بها. ومن بين هذه البلدان الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وألمانيا، قلب منطقة اليورو، واليابان، ومن الأهمية بمكان أيضاً إنشاء بنوك البنية الأساسية اللازمة لتمويل البنية الأساسية العامة المطلوبة.

وثانيا، في حين لا تخلف السياسة النقدية سوى تأثير محدود عندما تتمثل المشاكل بالديون المفرطة والإفلاس وليس نقص السيولة، فإن اللجوء إلى التيسير الائتماني وليس الاكتفاء بالتيسير الكمي قد يكون مفيدا.

ويتعين على البنك المركزي الأوروبي أن يعدل عن قراره الخاطئ برفع أسعار الفائدة، ويتطلب الأمر أيضاً اللجوء إلى المزيد من التيسير النقدي والائتماني من قِبَل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، وبنك اليابان، وبنك إنكلترا، والبنك الوطني السويسري. وقريبا، سوف يصبح التضخم بمنزلة المشكلة الأخيرة التي قد تخشاها البنوك المركزية، مع تغذية الركود المتجدد في مجال السلع والعمالة والعقارات وأسواق السلع الأساسية للضغوط المضادة للتضخم.

ثالثا، تتطلب محاولات استعادة النمو الائتماني تعزيز قوة بنوك منطقة اليورو وأنظمتها المصرفية التي تعاني الافتقار إلى رأس المال، وذلك بالاستعانة بالتمويل العام في إطار برنامج شامل للاتحاد الأوروبي بالكامل، ولتجنب الانزلاق إلى ضائقة ائتمانية إضافية مع تخلص البنوك من ديونها، فيتعين علينا أن نتعامل ببعض الهوادة واللين مع البنوك في الأمد القصير يما يتصل برأس المال ومتطلبات السيولة.

فضلاً عن ذلك، وما دام من غير المرجح أن توفر الأنظمة المصرفية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الائتمان للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، فإن مسارعة الحكومات إلى تقديم الائتمان مباشرة إلى هذه المؤسسات القادرة على سداد ديونها ولكنها تفتقر إلى السيولة اللازمة تشكل ضرورة أساسية.

رابعا، يشكل توفير السيولة على نطاق واسع للحكومات القادرة على سداد ديونها ضرورة أساسية لتجنب أي ارتفاع حاد في الفوارق بين أسعار الفائدة وخسارة القدرة على الوصول إلى الأسواق، والذي من شأنه أن يحول نقص السيولة على إفلاس.

فحتى في ظل تغيير السياسات، يستغرق الأمر بعض الوقت حتى تتمكن الحكومات من استعادة مصداقيتها، وإلى أن يحدث ذلك فإن الأسواق سوف تبقي على ضغوطها المفروضة على الفوارق السيادية، وهو ما من شأنه أن يزيد من احتمالات اندلاع أزمة ذاتية التحقق.

اليوم أصبحت إسبانيا وإيطاليا عُرضة لخطر فقدان القدرة على الوصول إلى الأسواق، والأمر الآن يتطلب مضاعفة الموارد الرسمية إلى ثلاثة أمثال- من خلال مرفق أكبر حجماً للاستقرار المالي الأوروبي، أو سندات اليورو، أو التحرك القوي من جانب البنك المركزي الأوروبي- من أجل تجنب التكالب على استرداد الديون السيادية المستحقة على هاتين الدولتين.

خامسا، لابد من دعم استدامة أعباء الديون التي لا يمكن التخلص منها بالاستعانة بالنمو أو المدخرات أو التضخم، وذلك من خلال إعادة هيكلة الديون بشكل منظم، وخفضها، وتحويل الديون إلى أسهم. ومن الأهمية بمكان أن يتم تطبيق هذا على الحكومات والأسر والمؤسسات المالية المفلسة على السواء.

سادسا، حتى في حالة منح اليونان وغيرها من بلدان منطقة اليورو المحيطية إعفاءً كبيراً من الديون، فإن النمو الاقتصادي لن يعود قبل استعادة القدرة التنافسية، ومن دون العودة السريعة إلى النمو، فلن يكون بالإمكان تجنب المزيد من حالات العجز عن سداد الديون السيادية، والاضطرابات الاجتماعية.

وهناك ثلاثة اختيارات لاستعادة القدرة التنافسية داخل منطقة اليورو، وجميعها تتطلب خفضاً حقيقياً لقيمة العملة، ولا نستطيع أن نعتبر أياً منها قابلاً للتطبيق:

• إضعاف قيمة اليورو بشكل حاد إلى أن تتساوى قيمته مع قيمة الدولار الأميركي، وهو أمر مستبعد لأن الولايات المتحدة ضعيفة أيضا.

• الخفض السريع لتكاليف وحدة العمل، عبر التعجيل بالإصلاح البنيوي ونمو الإنتاجية نسبة على نمو الأجور، وهو أيضاً خيار مستبعد لأنه هذه العملية استغرقت خمسة عشر عاماً حتى تمكنت ألمانيا من استعادة قدرتها التنافسية.

• الانكماش التراكمي بنسبة 30% على مدى خمسة أعوام للأسعار والأجور- في اليونان على سبيل المثال- وهو ما يعني خمسة أعوام من الكساد العميق الذي قد يؤدي إلى عواقب اجتماعية وخيمة؛ وحتى لو كان ذلك ممكنا، فإن هذا الكم من الانكماش من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم العجز عن سداد الديون، نظراً للزيادة بنسبة 30% في القيمة الحقيقية للديون.

ولأن هذه الخيارات من غير الممكن أن تنجح، فإن البديل الوحيد يتلخص في خروج اليونان وبعض أعضاء حاليين آخرين من منطقة اليورو، فمن غير الممكن أن يتسنى لهذه البلدان استعادة القدرة التنافسية والنمو إلا من خلال العودة إلى العملات الوطنية، والخفض الحاد لقيمة هذه العملات.

لا شك أن ترك العملة المشتركة من شأنه أن يهدد بفرض أضرار جانبية على الدولة التي تقرر الخروج وأن يزيد من خطر انتقال العدوى إلى البلدان الأخرى الضعيفة في منطقة اليورو، وعلى هذا فمن الأهمية بمكان أن يتم التعامل مع تأثيرات القوائم المالية في ديون منطقة اليورو نتيجة لخفض قيمة العملات الوطنية الجديدة من خلال التحويل المنظم لديون اليورو إلى العملات الوطنية الجديدة عن طريق المفاوضات، وسوف يتطلب الأمر الاستخدام اللائق للموارد المالية، بما في ذلك إعادة تمويل بنوك منطقة اليورو، من أجل الحد من الأضرار الجانبية واحتمالات انتقال العدوى.

سابعا، من الواضح أن ارتفاع معدلات البطالة والنمو الهزيل في الاقتصادات المتقدمة راجع إلى أسباب بنيوية، بما في ذلك صعود الأسواق الناشئة التنافسية، ومن المؤكد أن اللجوء إلى تدابير الحماية لا يشكل استجابة لائقة لمثل هذه التغيرات الهائلة، بل إن الاقتصادات المتقدمة تحتاج بدلاً من ذلك إلى خطة متوسطة الأمد لاستعادة القدرة التنافسية وفرص العمل من خلال استثمارات جديدة ضخمة في التعليم العالي الجودة، والتدريب المهني وتحسين رأس المال البشري، والبنية الأساسية، والطاقة البديلة المتجددة، ولن يتسنى تزويد العمال في الاقتصادات المتقدمة بالأدوات اللازمة للمنافسة على المستوى العالمي إلا من خلال تطبيق مثل هذا البرنامج.

ثامنا، تتمتع اقتصادات البلدان الناشئة بالمزيد من الأدوات السياسية مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، ويتعين عليها أن تعمل على تخفيف السياسات النقدية والمالية، ومن الممكن أن يعمل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي كملاذ أخير للإقراض للبلدان الناشئة المعرضة لخطر فقدان القدرة على الوصول إلى الأسواق، شريطة تبني هذه البلدان للإصلاحات المناسبة للسياسات، كما يتعين على البلدان التي تعتمد بشكل مفرط على الصادرات الصافية بهدف تحقيق النمو السريع، مثل الصين، أن تعمل على التعجيل بتطبيق الإصلاحات، بما في ذلك رفع قيمة العملة بسرعة أكبر، من أجل تعزيز الطلب والاستهلاك المحليين. إن المخاطر الماثلة أمامنا لا تقتصر على الركود المزدوج المعتدل فحسب، بل إنها قد تمتد إلى الانكماش الحاد الذي قد يتحول إلى أزمة كساد أعظم ثانية (أشبه بما حدث في ثلاثينيات القرن العشرين)، وخاصة إذا أفلت زمام أزمة منطقة اليورو فأدى ذلك إلى انهيار مالي عالمي.

كانت السياسات الخاطئة التي انتهجت أثناء أزمة الكساد الأعظم الأولى سبباً في اندلاع الحروب التجارية وحروب العملة، والتخلف عن سداد الديون على نحو غير منضبط، والانكماش، واتساع فجوة التفاوت بين الدخول والثروات، والفقر، والكساد، والاضطرابات الاجتماعية والسياسية التي أدت في نهاية المطاف إلى صعود الأنظمة الاستبدادية ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية، والوسيلة الأمثل لتجنب خطر تكرار هذا التسلسل الجهنمي تتلخص في التنسيق الجريء والقوي للسياسات على مستوى العالم، الآن.

* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، رئيس مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي، وأستاذ الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال بجامعة نيويورك، والمؤلف المشارك لكتاب «اقتصاد الأزمة».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة"»

back to top