أحد أهم أسباب حقائقنا المطلقة التي تحول دون قبولنا لأي أفكار أو آراء أخرى هو مناهج وطرق التعليم، وهو أمر مثير للسخرية أن يصبح التعليم سبباً للجمود الفكري بدلا من أن يكون السبيل للتطور والتقدم والحداثة، ولعل المشكلة في أساسها تكمن في تعويد الطلبة على حل المسائل بطريقة لا تحيد شعرة واحدة عما هو موجود في كتبهم المدرسية، وإلا فالدرجات الهزيلة في انتظارهم مصحوبة بنظرة احتقار من المدرس لكل طالب "متفلسف"!

Ad

تجنباً لمثل هذا، قام أستاذ لعلم النفس بعمل تجربة طريفة لتلاميذه، إذ طلب منهم إخراج كرة تنس من أنبوب طويل يعلوه الصدأ، وكان في الغرفة مطرقة وكماشات ومساطر وإناء أسطواني فيه ماء قذر، وبدأ الطلبة بتجربة ما حولهم من أشياء تساعدهم على التقاط الكرة من قاع الأنبوب، ولم يمض وقت طويل حتى وجد أحدهم أن الحل يكمن في صب الماء القذر في الأنبوب لكي تطفو الكرة على وجه الماء فيسهل تناولها!

في اليوم التالي، كرر التجربة مع طلبة آخرين مع فارق واحد، فقد استبدل إناء الماء القذر بإبريق ماء بارد وضعه على المائدة وأحاطه ببعض الأكواب الأنيقة، ولم يستطع أي واحد من الطلبة في هذه المرة أن يصل إلى حل المشكلة... لماذا؟!

لأن كل واحد منهم كانت لديه فكرة مسبقة ثابتة في ذهنه بأن الماء الموضوع في إبريق أنيق إنما هو مخصص للشرب فقط، ولم يفكر لحظة أنه من الممكن استخدامه للصب في أنبوب يعلوه الصدأ كي يحل المشكلة!

والغاية التي أراد الأستاذ إيصالها إلى التلاميذ هي مواجهة كل موقف بما يلائمه من التفكير بعيداً عن الأفكار والحلول المسبقة، لأن الجمود على يقينيات سابقة لن يساعدهم على إيجاد أي أفكار جديدة في حياتهم، وإذا واجهتهم في المستقبل مشكلات ومعضلات، فلن يكونوا محدودين في تفكيرهم، ولن تكون حلولهم اعتيادية وروتينية، بل سيلجؤون دائما إلى الابتكار وإيجاد الحلول الجديدة، والتي هي في الإمكان دائما!

وما تقوم به وزارات التعليم في عالمنا العربي من تلقين حرفي للمناهج وتعويد الطلبة على حفظها دون أي تحليل أو نقد ما فيها، واعتبارها حقائق مطلقة لا يرقى الشك لحرف فيها لهو جريمة في حق عقولهم، وهو سبب ضيقنا لأي فكر مختلف، فقد تربينا على أن هناك وجها واحدا للحقيقة وما عداه زيف وادعاء باطل!

والأمر يزداد سوءاً في التعامل مع الموروث الديني على وجه الخصوص، إذ لم تكتف أغلبية المسلمين بتقديس النص الديني، بل شمل التقديس أيضا أي تفسير قديم بنفس الدرجة وربما أكثر، وأي محاولة لمخالفة ذلك المقدس يتعرض صاحبها للتكفير والخروج من الملة!

كل ذلك سببه أننا لم نتعلم أن هناك عدة وجوه للحقيقة، وأن ما أراه صوابا يراه غيري خطأً، لأننا نرى الأمور من زاوية مختلفة، وقد أكون مصيبا أو يكون غيري هو المصيب، وذلك كله غير مهم، فالمهم هو تقبل أفكار الآخرين دون تشكيك في النوايا وكيل الاتهامات لهم، لكن هذا لن يأتي أبدا ما دمنا نعطل عقول أبنائنا منذ الصغر لنعلمهم "تلقينيا" أن الحقيقة لها وجه واحد!

 ولن نتطور أبدا ما لم نعوّد طلبتنا على استثارة وتحفيز العقل على العمل وفق قواعد ثلاث: أن كل شيء صالح للمناقشة، وأنه كلما كانت الفكرة غريبة كانت أفضل، وأنه ليس هناك ما هو غير خاضع للنقد. وبذلك سنتجنب كثيرا من المشاكل التي نعايشها يوميا في مجتمعاتنا التي اعتادت كراهية الآخر وتسفيهه وتخوينه وفق أفكار مسبقة ويقينيات غير قابلة للجدل، على الرغم من سخافتها وتفاهتها في نظر كثير من الأمم تفوقنا... في الفكر والثقافة والأخلاق!

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة