لا خوف من دولة الأصوليين الدينية... فلتقم!

نشر في 28-09-2011
آخر تحديث 28-09-2011 | 00:01
No Image Caption
 د. شاكر النابلسي - 1 سبق أن رددنا عدة مرات، مقولة الفيلسوف الألماني هيغل الشهيرة التي تقول: "لكي نتجاوز مرحلة تاريخية ما، لا بُدَّ من ممارستها"، وكذلك المقولة الأخرى: "لكي نعرف ما في داخل حبة الجوز، علينا أن نكسرها"، وقد كان العلمانيون على أحر من الجمر، لكي يمارس تيار "الإسلام السياسي" الحكم في يوم ما، حتى يتم كسر حبة الجوز، ومعرفة ما بداخلها، ولكي نجتاز مرحلة "الإسلام السياسي" إلى مرحلة العَلْمانية السياسية، وفصل الدين عن الدولة، وليس عن المجتمع والناس، وإبقاء الدين هناك في مكانه العلوي المقدس، بعيداً عن نجاسة السياسة وأوساخها.

لقد شهدنا في السنوات الماضية كم نال هذا الدين الحنيف من أوضار وأقذار، نتيجة خلط أوراق الدين بأوراق السياسة، والسماء بالأرض، والروحي بالمادي، والثابت بالمتحول، وها نحن الآن قد عرفنا- من خلال الخلافة الحمساوية الغزّاويّة- ما هي حقيقة الدولة الدينية في القرن الحادي والعشرين، وفي مطلع الألفية الثالثة، بعد أن أصبحت الدولة الدينية نسياً منسيّاً، ومرحلة ماضية من مراحل التاريخ السياسي البشري.

- 2 كان لبعض المفكرين في القرن العشرين من التيار الإسلامي المستنير والمتشدد على السواء، الدور الأكبر في تنفير المسلمين من الغرب عن طريق إبراز ما كانت تقوم به الكتلة الشرقية الشيوعية المنهارة في أوروبا من امتهان للإسلام والمسلمين، وإن "الشيوعية قد تصبر على المسيحية، ولكنها لا تطيق الصبر على الإسلام إلا ريثما تتحفز له وتغلَّ أيدي أتباعه من المقاومة، وأن المسلمين في حوزة الشيوعية حُرموا من كل رابطة يرتبطون بها غير قيود الحكم الروسي". كما قال عباس العقاد، في كتابه ("أفيون الشعوب... المذاهب الهدّامة"، ص74، 75). وقد كان لهذا كله ردُّ فعل عنيف عند التيار الإسلامي من يمين ويسار، وساهم في الصدام المحتمل بين الغرب والإسلام، وبضرورة قيام دولة دينية لحماية الدين من أعدائه الغربيين.

في حين أكد بعض المفكرين الإسلاميين "أن الحرب بين الإسلام والغرب هي حرب حياة أو موت، وقد عاش الإسلام، وماتت عداوات كثيرة ناصبته الحرب منذ مئات السنين، وسيعيش الإسلام مئات السنين والشيوعية وأمثالها في خبر كان، كما قال العقاد في كتابه السابق (ص78). وكان للماركسيين العرب رأي مخالف لهذا. فهم يرون أن "الإسلام كان دين إيمان وروحانية من جهة، ومن جهة أخرى كان طيلة عشرة قرون خلت درعاً ثقافية في مواجهة العدوان المتلاحق من أوروبا والغرب". كما يرون أن الصدام قائم بين الإسلام وأوروبا الغربية فقط، وأنه "لم يعد أي تناقض بين التحرير الوطني والاشتراكية والإسلام، وأنه من المستحيل استبعاد الإسلام السياسي المعاصر، وأن الإسلام حليف كل القوى الاشتراكية في العالم منذ الثورة البلشفية في 1917، كما قال المفكر المصري أنور عبد الملك، ("الفكر العربي في معركة النهضة"، ص118- 119).

- 3 لقد رأينا في حوادث ومكر التاريخ عجباً، وفعلاً، فقد صدقت رؤيا عباس العقاد، وعاش الإسلام، وأصبحت الشيوعية في خبر كان منذ عام 1991، وكأن العقاد كان يقرأ المستقبل، قراءة الرائي المتنبئ النافذ.

ولكن السؤال الخبيث هنا هو: هل كان ذلك بفضل قوة الإسلام، أم بفضل ضعف الشيوعية، ودكتاتوريتها العاتية، واقتصادها المنهار، وفسادها الإداري المستشري؟ ولماذا لم ينطبق هذا الانهيار- نتيجة لقوة الإسلام- على النظام الرأسمالي الغربي، العدو الآخر والأشرس للإسلام، في رأي التيار الإسلامي؟ أم أن نهاية هذا النظام آتية لا ريب فيها، كما يبشرنا دائما التيار الإسلامي بقيادة الإخوان المسلمين، والتيار الإسلامي الثوري في إيران.

- 4 إن  تمكين الحركات الإسلامية التي تقود التيار المضاد للحداثة من تجريب شعاراتها الشعبوية لشفاء جمهورها من أسطورتها، مثلما هو جارٍ الآن في إيران والسودان وأفغانستان، حيث يكاد ينعقد الإجماع على كراهية هذه الحركات، وشعاراتها، ومرجعيتها. فمن مظاهر الأسطرة (التخريف) السابقة، في إيران، أن أكبر هاشمي رفسنجاني- الذي كان مرشح الانتخابات الرئاسية الإيرانية- وعد الناخبين بدفع عشرات بلايين الدولارات في حال انتخابه رئيساً في الدورة الثانية التي يتنافس فيها مع المرشح المحافظ المتشدد محمود أحمدي نجاد (الفائز)، ووعد خلال الساعات الأخيرة من الجولة الثانية للحملة الانتخابية في مقابلة مع التلفزيون الرسمي، بأن يدفع في حال فوزه لكل عائلة إيرانية 100 مليون ريال (نحو 11 ألف دولار) من أسهم مؤسسات الدولة التي سيتم تخصيصها. بالمقابل، دعت المحامية والناشطة السياسية الإيرانية والحائزة جائزة نوبل، شيرين عبادي، الشعب الإيراني إلى العصيان المدني ضد السلطة الإيرانية القائمة بمناسبة انتخابات الرئاسة في (يونيو، 2005) باعتبار أن العصيان المدني هو الطريقة الوحيدة للتخلص من النظام القائم، ورفضت شيرين عبادي تبني توصيف حملة رفسنجاني الانتخابية في 2005 التي تروِّج لمقولة "إذا لم تنتخبوني فالطالبان قادمون"، وقالت الناشطة الإيرانية في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان "أقل ما يمكننا القيام به هو العصيان المدني. فالأصوات التي سيتم إسقاطها في صناديق الاقتراع ليست صالحة لأنها ليست حرة"، وأضافت: "الحرية طريق لا عودة عنه، ولا يمكن العودة إلى الوراء، وحتى بعد انتصار الثورة لم يتمكن المسؤولون من فرض ارتداء الشادور على النساء"، مؤكدة أن "الثقافة الإيرانية لن تسمح بأن يكون هناك نظام كنظام طالبان"، مشيرة إلى أن أكثر من 60 في المئة من الطلاب في الجامعات الإيرانية من الشابات. ووضع إيران الآن في ظل الدولة الدينية، مشابه لما آلت إلى الحركات الفاشية في الثلاثينيات والستينيات في أوروبا، حيث تقدم تجارب البلدان التي كابدت الفاشية مؤشرات على أن الشعوب لا تجرّب الفاشية مرتين، وبعد سقوطها تنتقل إلى الحداثة، على نحو لا رجعة فيه.

- 5 إن الدولة المدنية التي تسعى إليها الثورات العربية الآن، سوف تُبنى على أُسس:

- تحديث البُنى التحتية والفوقية، وخاصة تحرير العقل من رق النقل.

- إلغاء طائفية الدولة عملياً.

- علمنة البحث العلمي، والإبداع الأدبي، والفني للتحرر من كابوس الرقابة الذاتية، الذي يحكم على العقل، والخيال.

- علمنة التعليم، ليصبح قادراً على تخريج عمال الغد من التقنيين، والمهندسين، والأطباء، والعلماء، والباحثين، وتحقيق هذه المهمة لمعاصرة العصر، يُفترض الأخذ بالحداثة.

- 6 فهل تستطيع الدولة الدينية– إذا ما قامت في العالم العربي– تطبيق المبادئ التالية:

أ- الانتقال من أنماط الحكم الملطخة برواسب العصور الوسطى إلى الديمقراطية العصرية المنشأ، والتطبيق، والانتقال من القوانين القروسطية المستلهمة للعقوبات البدنية إلى القوانين الحديثة التي تستمد شرعيتها حصراً من مطابقتها للقيم الإنسانية والعقلانية، التي تبناها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" في 1948.

ب - إحداث جواز المرور من كونفدرالية الطوائف إلى الدولة الحديثة، والانتقال من عضو الطائفة المتشرّب لنرجسية طائفته، أو مركزيتها الإثنية إلى المواطن والفرد الحديثين؛ أي الانتقال من استرقاق النقل للعقل إلى الانعتاق من محاكم التفتيش التي تحكم على الباحثين بالردة.

ج - فك التماهي مع الماضي،  كما فعلت ألمانيا بالنسبة إلى هزيمتها أمام فرنسا في 1806، وكما فعلت اليابان في 1868 عندما قامت بثورة "الميجي"، وأقامت الحداد على جانب من ثقافتها الإقطاعية، وتبنت الدساتير، ونظم التعليم الحديثة في 1945. وكما فعلت تركيا الكمالية في 1924، وفكت روابطها مع أسوأ الرواسب العثمانية.

* كاتب أردني

back to top