يبدو الرأي العام في مصر اليوم مختلفاً اختلافاً كبيراً على العديد من القضايا السياسية الأساسية المتصلة بالثورة والفترة الانتقالية والانتخابات المنتظرة والانفلات الأمني والتراجع الاقتصادي وغيرها من الأمور الحيوية، لكن هذا الانشغال الكبير بهذه العناوين الضخمة لم يَحُل دون انقسام حقيقي إزاء "قناة الجزيرة" القطرية.

Ad

على مدى الأسبوعين الماضيين اتخذت السلطات المصرية إجراءين خشنين تجاه "قناة الجزيرة مباشر مصر"، وهي أول قناة غير مصرية من نوعها تتخذ من الموضوعات المتعلقة بمصر محوراً تحريرياً وحيداً، وتقدم برامج وأخباراً تتعلق بالشأن الجاري المصري على مدار الساعة، بشكل يفوق تركيز القنوات المصرية نفسها.

فقد داهمت قوة من رجال الأمن المصريين مكتب قناة "الجزيرة مباشر مصر" قبل نحو أسبوعين، لإيقاف بثها بداعي عدم حصولها على ترخيص، وهو الأمر الذي ثبت بالفعل لاحقاً؛ إذ صرح مسؤولون بالقناة بأنهم أطلقوا البث من العاصمة المصرية قبل حصولهم على ترخيص "تماشياً مع أجواء الثورة"، ثم تقدموا لاحقاً بأوراقهم للحصول على الترخيص للسلطات المختصة، لكن تلك الأخيرة لم تمنحهم إياه، طالبة استيفاء بعض الأوراق الأخرى.

ورغم تلك المداهمة، وبدء مسؤولي "الجزيرة" المطالبة بالترخيص عبر الإجراءات الرسمية، فإنهم واصلوا تقديم الخدمة عبر القناة ذاتها التي تحمل اسم مصر، من خلال البث من الدوحة على ذات التردد، وإرسال مواد مسجلة من القاهرة، أو استضافة مصادر عبر برنامج الكمبيوتر "سكايب"، وهو الأمر الذي اعتبرته السلطات المصرية تحدياً لها على ما يبدو.

ولذلك، فقد تكررت المداهمة مرة أخرى قبل أيام، بالداعي نفسه، وهو الأمر الذي اعتبرته "الجزيرة" عدواناً عليها وعلى حرية الإعلام، كما رأى مناصروها أنه محاولة لتكميم أحد الأصوات الفاعلة والمؤيدة للثورة، خصوصاً أن تلك المداهمة الأخيرة تمت عشية تظاهرات "جمعة استرداد الثورة" التي كان يخشى أن تتحول إلى عامل ضغط كبير على السلطات المصرية.

ليست تلك بالطبع مشكلة إدارية إجرائية بين قناة فضائية وسلطات دولة من الدول، ولكنها انعكاس لمشكلة سياسية، وسوء تفاهم واضح بين السلطة الانتقالية في مصر من جانب و"الجزيرة" والدولة القطرية من جانب آخر.

يحلو لبعض العاملين في "قناة الجزيرة" في مصر أو الدوحة أن يعتبروا أنفسهم جزءاً مهماً من ثورة 25 يناير، ليس فقط عبر نقل تفاعلاتها المختلفة لحظة بلحظة، ولكن أيضاً عبر تبنيها ومساندتها بشكل مباشر، وقد حدث فعلاً أن تبادل مقدمو بعض البرامج والنشرات بها التهاني فور إعلان سقوط مبارك في فبراير الماضي.

ومنذ انطلقت "الجزيرة مباشر مصر" في شهر مارس الماضي، وهي تتعامل بوصفها "قناة للثورة المصرية"، حيث تجتهد في إبقاء جذوة تلك الثورة مشتعلة، لا مجرد ملاحقة تطوراتها.

عصر يوم الجمعة الماضي، كان أحد مذيعي "الجزيرة مباشر مصر" يقدم برنامجاً على الهواء يستضيف خلاله أحد المصريين عبر برنامج "سكايب"، فبدأ بسؤاله: "سيد أحمد لماذا لم تنزل إلى ميدان التحرير اليوم؟".

لا شك أن تغطية "الجزيرة مباشر مصر" للأحداث السياسية المتلاحقة في البلاد بعد ثورة 25 يناير كانت تتمتع بموارد كبيرة وطريقة جيدة لإدارتها وقدرة على اختيار الأحداث التي تلبي اهتمامات قطاع كبير من الجمهور المصري المسيس، لكن لا شك أيضاً أنها انطوت على أنماط انحياز مهنية صارخة.

وفضلاً عن كونها الشبكة الإعلامية العربية الوحيدة التي تقرر إقامة قناة مخصصة لدولة أخرى غير دولة المنشأ، فقد اختارت أن تكون "أداة سياسية دعائية مباشرة" تنتصر لموقف وطرف سياسي محدد على حساب موقف آخر، بعيداً عن الذرائع المهنية أو قيم الحياد والتوازن.

لم تكن "الجزيرة" لتنجح في هذا لولا أنها استفادت من خواء منظومة الإعلام المصرية العامة، التي تلطخت سمعتها تماماً وفقدت مصداقيتها بسبب أدائها المخزي على هامش ثورة 25 يناير وما قبلها وما بعدها.

وحتى التلفزيون المصري الخاص، الذي باتت له قنوات كثيرة، يهتم معظمه ببرامج "التوك شو" أو الخدمة العامة غير المتخصصة، من دون تركيز مميز على الأخبار، التي باتت محل طلب الجمهور الكبير، الذي يريد أن يرصد التطورات المتلاحقة، في بلد يشهد فترة مفصلية خطيرة ونادرة في حياته، تحتاج تركيزاً إخبارياً وتحليلاً متواصلاً.

حاولت "الجزيرة مباشر مصر" أن تسد تلك الفجوة لدى الجمهور المصري، لكنها دخلت من غير الأبواب الرسمية، فلم تستوفِ تراخيصها وإجراءات البث المرعية، كما أنها لم تراعِ الاعتبارات المهنية، وأخذتها "الحماسة" و"الانحياز السياسي" إلى حيث باتت "جزءاً من الترويج للثورة، وداعمة للمد الثوري، ومؤيدة للحفاظ على المكتسبات الثورية، وناقلة لكل الأحداث التي تتعلق بذلك بتركيز أكبر من المعتاد واللازم، وبشكل ربما يعززها ويحرض عليها".

لكن قطاعات في السلطة المصرية رأت أن "الجزيرة مباشر مصر" تنتهك السيادة الوطنية، وتريد أن تعامل معاملة استثنائية غير تلك التي يتلقاها 200 مكتب مراسلة أجنبي ونحو 925 مراسلاً من أنحاء العالم، وتواصل الإصرار على الصدور من دون تراخيص، وتريد أن تلوي ذراع الحكومة وتفرض إرادتها عليها وتستمر بالبث بأي صورة من الصور.

يشبه التلفزيون المصري الدولة المصرية بقدر ما تشبه "الجزيرة" الدولة القطرية، فالأول مثل دولته تماماً، بعد ثلاثة عقود تحت حكم مبارك، يعاني الترهل والفساد والعجز وغياب الرؤية وفقدان المصداقية، والثانية مثل دولتها تماماً، في ضوء الارتفاعات الكبيرة في أسعار النفط والغاز، تتميز بالرشاقة والمبادرة والقدرة على الانتهاز والاختراق لتحقيق الأحلام العريضة الخطرة.

لا تتعلق تلك المشكلة بـ"الجزيرة مباشر مصر"، أو عدم حصولها على ترخيص بالبث، الذي يبدو أنها لن تحصل عليه أبداً، لكنها مشكلة تتعلق برؤية السلطات الحاكمة في مصر الآن لإصرار القناة على لعب دور يتخطى الإعلام إلى السياسة، ويؤثر تأثيراً مباشراً في الأوضاع الحرجة التي تشهدها البلاد راهناً، ويصب في خانة التأجيج والتثوير، في وقت تحتاج فيه مصر إلى الهدوء والتفاهم لعبور المرحلة الخطرة الراهنة.

لا يصح أن تشهد مصر ما بعد ثورة 25 يناير أي استهداف إداري أو أمني لوسائل الإعلام أياً كانت، ولا تقبل أي إجراءات خشنة في حق وسائل الإعلام المختلفة، ولا يجب أن ينحو المجلس العسكري الحاكم وحكومته هذا المنحى بالأساس، لكن أيضاً لا يمكن فهم إصرار قناة أجنبية على ليّ ذراع السلطة في بلد آخر والإصرار على البث المباشر منه من دون استيفاء الإجراءات الواجبة، وبطريقة تتخطى عتبة الإخبار لتدخل مجال الدعاية على طريقة "لماذا لم تذهب إلى ميدان التحرير؟".

يبقى الإشكال بين مصر و"الجزيرة مباشر مصر" إشكالاً يتعلق بقناة "الجزيرة" ودورها الملتبس في تغطية ما عرف بـ"ثورات الربيع العربي" وهي التغطية التي أُخذ عليها غض الطرف عما حصل في عُمان والإمارات والسعودية، وعما حصل ويحصل في البحرين، والتذبذب والتردد حيال ما جرى ويجري في سورية، في مقابل المواقف الواضحة القوية إزاء ما جرى بتونس ومصر وليبيا.

كانت "الجزيرة" ومازالت خطوة ضرورية نحو إعادة الحياة إلى الممارسة الإخبارية في الإعلام العربي، وقد رفعت أسقفاً وأزالت قيوداً ورفدت المواطنين العرب بالكثير من المعارف المهمة التي غُيبت عنهم قسراً على مدى عقود، لكنها تضخمت إلى حد باتت فيه تتصرف كدولة، وانحازت إلى درجة لم تعد تفرق فيها بين الدعاية والأخبار.

* كاتب مصري