التدجين ليس إلا حالة خوف من المواجهة مع كل ما هو غير معتاد وغير مألوف وخارج عن النمط السائد وعن دائرة القطيع، لذا يأتي التدجين لقمع كل ما يحرك ويثير بوادر أي سلوك أو أي ظاهرة تحاول الخروج عن نمط التدجين الضابط للمجتمع، وعلى وجه الخصوص مجتمعات الأقلية التي يسيطر عليها نظام الرعاية الأبوية بشكل واضح سافر.

Ad

أكتب هذا الكلام بسبب حدثين يمثلان شكلين للكيفية التي يتم فيها التدجين، فالتلميذ المصري الذي فُصل من مدرسته بسبب سؤال طفولي طرحته سنوات عمره العشر من دون أية دوافع حين قال: لماذا لا تقوم حرب في الكويت؟

مجرد سؤال لطفل متأثر بالثورات التي تهز عروش العالم العربي من حوله أخاف وزارة التربية والتعليم لخروج هذا الطفل عن نظام تدجين القطيع، لأن السؤال ربما كان سيفرض تأثيره على عقول الأطفال الآخرين وبالتالي ستستيقظ عقولهم ويبدأون بطرح الأسئلة الخارجة عن نطاق التدجين الشامل.

والحدث الثاني حصل في حضانة أطفال في مصر حيث انتشر في الإنترنت تسجيل لمدرس يضرب أطفال روضة ضربا مبرحا، والأطفال يبكون بخوف قطع قلوب المشاهدين من الألم الذي لم يُحدث أي ردة فعل أو أي ألم مماثل في قلوب الأهالي الذين تجمهروا وتظاهروا ضد الحكومة مطالبين بإعادة فتح الحضانة وإطلاق سراح المدرس الذي ضرب أطفالهم لأنه كما يقولون هو يربيهم وهم راضون بتربيته لهم.

مصيبة هو هذا التدجين الاجتماعي الذي يتم للفرد منذ الصغر حيث يسحق وعيه وإرادة التفكير الحر المبدع لديه حتى لا يختلف ولا يتميز عن غيره من بقية القطيع، ومن ثمة لا يخيفهم اختلافه وتميزه عنهم بأي شيء كان.

استلاب الوعي الفردي يتم منذ الولادة وربما حتى من لحظة الخلق الأولى التي تتم في رحم لأنثى مدجنة ومستلبة  بالكامل لإرادة القطيع، ومن بذر فيها بذرته أيضا منتم لهذا القطيع فبالتالي ماذا يترجى من بذرتهما الخائبة إلا أن تكون تابعة ومماثلة ومنطوية ضمن فصيل التركيبة ذاتها، ولو حاول أي شخص مجرد محاولة للخروج خارج نظام التدجين السائد المتمثل بالأعراف وبالعادات وبالتقاليد وبالأنظمة المتنوعة والمختلفة المنطوية تحت صيغ خداعة تحت مسميات "السنع والمنع" أي هؤلاء الخاضعين بطاعة كاملة لإرادة الجماعة بكل مواصفاتها "السنعة" أي تلك التي تخلق مواطنا مدجنا بالكامل لها من خضوع عقله وإرادته ووعيه وتصرفاته وردود أفعاله وحتى مأكله وملبسه وطريقة نطقه بالكلام.

إنسان آلي مدجن ومرضي عنه، مقبول وله مكانه ومكانته ضمن الجماعة.

لكن يا ويل من يحاول الخروج عن نمط التدجين بإرادة حرة وبروح متمردة لا تقبل الاستلاب والتدجين، وبوعي متفرد في إبداعه الخاص الرافض، حينها سيُنبذ ولن يُرحب به ولن ينال الاحترام اللائق وسيشعرونه بالدونية وبأنه ليس منهم ولا ينتمي الى فئة "السنع" الذين هم مطابقون لشروط الانضباط والخنوع الاجتماعي المتمثل في الطاعة التامة لكل مظاهر سلوكهم الاجتماعي ووعيهم المدجن بوعي جمعي لا يقبل الاختلاف ويحاول إقصاءه بالترفع عنه وإشعاره بأن تركيبته غلط، وانه مذنب باختلافه، حتى يشعر بالفعل بذنب لم يأتيه ولم يرتكبه، سوى أنه  كان متفردا ومتميزا بوعي مختلف عنهم، فأخافهم وعيه المختلف عنهم.

ومما يغيظ بالفعل هو قدرتهم وقوة سلطتهم التي تعيد الفرد المتميز بوعيه إلى حظيرتهم من جديد حتى وإن ولد بروح حرة هم قادرون على تدجينها، بل ربما يجعلونه ينقم على والديه لأنهم لم يمنحوه روحا مدجنة خائفة وخاضعة تماما لإرادة القطيع ومنحوه بدلا منها وعيا وإرادة حرة هي كنز إنساني حقيقي بل هي أثمن ما في الوجود كله، لكنه لم يستطيع الاستفادة منها في وسط مجتمع يحاول نبذ وتهميش وإشعار بالدونية لكل من يحاول الخروج عن طاعته.

فماذا يفيد التفرد والتميز في بلاد كل وعيها نائم في قوالب الأسلاف المحنطة في السنع والمنع؟

فقط هي الروح والفكر للوعي المنعتق باستطاعته خلق الابتكار والإبداع خارج عن إرادة الوصاية والحماية الخاضعة لكل قوانين وأعراف وقيود التدجين، ولن يكون هناك أي تقدم ما لم تتحرر هذه الأرواح من أقفاص تدجينها، ولن تكون هناك دولة خلاقة ما لم نجد الفرد الخلاق فيها.