الدستور المفترى عليه
حكايتنا مع الدستور مليئة بالشجون، وبالمشاعر المتباينة، أما حكايتنا مع خصوم الدستور، فهي حكاية مليئة بالجروح المفتوحة، المنثور عليها الكثير من الملح الخشن، إنها مليئة بالألم.هي مؤلمة، لأنها أضاعت فرصاً ذهبية لبناء ما كان يفترض أنه ولادة لمشروع دولة، ولبواكير مشروع تتوافر فيه الحدود الدنيا لاحترام المواطنة، ومن ثم جرت، عبر سنوات طويلة امتدت من ١٩٦٦ حتى يومنا هذا، محاولات مضنية لاستبدال مشروع الحكم بمشروع الدولة، فجرى تشويه مشروع الدولة تشويهاً بائناً، ولم يتم تثبيت معالم مشروع الحكم، فتحولت البلاد إلى حالة من الكوميديا السوداء، هي حالة بين هذا وذاك، أو منزلة بين المنزلتين.
وإذ أوشك عمر الدستور أن يصبح ٥٠ عاماً، وهو عمر النضوج وإعادة التقييم، فإننا نعيش في حالة الضياع والمشاعر المختلطة... هل يمكن أن نصف نظام حكمنا بأنه ديمقراطي؟ وهل نحن نقترب من الديمقراطية أم نبتعد عنها؟الإشكالية هي أننا قد جربنا كل شيء في الخمسين سنة الماضية من عمر الكويت الدستورية، التي بدأت بأول انتخابات للمجلس التأسيسي.جربنا إفراغ الدستور عن طريق إصدار قوانين غير دستورية في ١٩٦٥، كما جربنا تزوير الصناديق كما حدث في انتخابات يناير ١٩٦٧، وفي الحالتين كان هناك عدد من نواب الشعب الذين امتلكوا حساً عالياً من المسؤولية ما دفعهم إلى الاستقالة من مجلس الأمة.تجربة التزوير المباشر كانت فاشلة بكل المقاييس بدليل أنها لم تتكرر، إلا أن عملية التزوير غير المباشر ما زالت مستمرة. جربنا أيضاً الانفراد بالسلطة بعد حل المجلس سنة ١٩٧٦ وتعليق الدستور ومساعي تنقيحه، وفشلها من خارج الإطار الدستوري، كما جربنا كيف صدرت القوانين غير الدستورية في تلك الحقبة التي انفردت السلطة التنفيذية فيها بالحكم.كما جربنا أيضاً العبث الحكومي في الدوائر الانتخابية، وزيادتها من ١٠ إلى ٢٥ بهدف تحويل المجلس إلى مجرد ملحق لمجلس الوزراء، كما جربنا أيضاً الاطلاع على مخطط السلطة في إلغاء الدستور حين تقدمت الحكومة بمشروعها التنقيحي لمجلس ١٩٨١ ومع ذلك فشلت.كما جربنا إلغاء جديداً للمجلس والدستور في سنة ١٩٨٦، ولكنه بصيغة أكثر شدة، حيث كان قراراً نهائياً ببتر العلاقة مع الدستور فكان الغزو في ذلك الإطار، وفي ذلك السياق. الغريب، أنه مع كل هذه التجارب الفاشلة في العبثية السياسية ما زال هناك من يظن أو يتصور أن العلة هي في مجلس الأمة، وأن المشكلة هي في الدستور، وأن الخروج من حالة الانسداد السياسي هي في التخلص من الدستور. أما عندما احتاج المجتمع إلى كلمة توحده أثناء الغزو ظهر الدستور شامخاً موحداً للكلمة ومحدداً لرؤية هوية المجتمع، وعندما احتاج المجتمع إلى إجراءات تنهي أزمة الحكم في ٢٠٠٦ كان الدستور المفترى عليه هو الإجابة التي حسمت الموقف نحو استقرار الحكم والمضي قدماً.آن الأوان لإنهاء هذا الجدل العقيم الذي فرضته السلطة فرضاً، فالعالم يسير باتجاه آخر، وصراع القوة العبثي داخل الحكم وعلى أطرافه يتسبب بإعاقة الأداء السياسي وإضعاف السلطة والمجتمع على حد سواء.بالطبع، في مقابل موبقات السلطة التي تريد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، هناك آثام لا يمكن السكوت عنها من القوى السياسية والنواب وأجهزة الإعلام التي لم تدخر وسعاً في إفراغ الدستور من محتواه هي الأخرى، وبالذات في الشق الخاص بالحريات العامة.في النطق السامي الأخير لصاحب السمو أمير البلاد حفظه الله أثناء افتتاحه مجلس الأمة قبل أسبوعين، كان لافتاً استشهاده ببيت شعر ألقاه الشيخ عبدالله السالم إبان أزمة سياسية محتدمة حينها في سنة ١٩٦٤. من حيث الشكل أطلقنا عليها أزمة المادة ١٣١ من الدستور، أما من حيث الموضوع والتفاصيل فقد كانت أكثر تعقيداً من مجرد رقم مادة، بل كانت مبرراتها متعددة، كان لصراع الأسرة فيها نصيب الأسد، التي طلب على إثرها الشيخ صباح السالم رئيس الوزراء حينذاك، رحمه الله، حل المجلس، إلا أن الشيخ عبدالله السالم رفض ذلك، وطلب منه إعادة تشكيلة حكومته، وهكذا كان، وفي تلك الجلسة، التي قد نعود إلى تفصيلها في وقت لاحق، قال الشيخ عبدالله السالم بيت الشعر الذي استذكره الشيخ صباح الأحمد، وهو:تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحتفإن تولت فبالأشرار تنقادكم كانا صادقين في التعبير على الرغم من تغير الظروف والوجوه والمعطيات. كيف يتكرر الاستشهاد بنفس بيت الشعر من أميرين مختلفين في ذات المكان، بينهما قرابة خمسين عاماً؟ خمسون عاماً إذاً؟ ونفس بيت الشعر؟عسى أن يكون قد تبقى لنا من أهل الرأي أحد، وألا يخلو الجو كله أو أغلبه للأشرار، وعسى أن يكون هناك أمل ما في أن نستعيد مشروع الدولة، وإلا فليس أمامنا إلا الخراب... ولا حول ولا قوة إلا بالله.