محفّزان لزيارة معرض الرسام الانكليزي جون مارتن (1789-1854) الضخم، ضخامة أعماله، في متحف التيْت برِتِن. الأول أني لم أرَ أعماله عياناً في ما سبق. والآخر رغبة أن أرى مصدر الخلاف الشائع بين نقاد الفن في تقييمه: بين متحمس، ومتهِم برداءة الذوق والتقنية معاً.
في قاعاتٍ ست توزعت لوحات مارتن: مرحلة شبابه المبكر مع الألوان المائية، والمشاهد الطبيعية الزيتية، ومحاولاته الفاشلة للحصول على اعتراف من الأكاديمية الملكية، تليها مرحلة اندلاع مخيلته النذيرية (بين 1816-1829)، التي استقاها من التوراة وأحداث التاريخ والطبيعة الدامية، وشيء من مؤثرات الرسام تيرنر الذي سبقه. وقد اتسعت للوحات بالغة الأهمية والشهرة مثل «يوشع يأمر الشمس أن تقف» ولوحة «سقوط بابل» و»ودمار مدينة بومبيْ». ثم مرحلة أعمال الحفر على الزنك التي تتوسطها لوحة «الشيطان يرأس مجمع الجحيم». ثم مرحلة الأزمات والانكسار والنهوض ثانية. ثم مرحلة المجد مع ثلاثيته «القيامة»، التي خصها المعرض بقاعة تشبه قاعة السينما، تتعرض فيها اللوحات الثلاث لمؤثرات ضوئية، وصوتية. حتى آخر مرحلة في حياته، اتصفت بالهدوء، انصرف فيها مارتن إلى الطبيعة والألوان المائية. ولعل هذا المعرض هو الأول في ضخامته منذ وفاة مارتن، جاء على أثر نسيان واضح لاسمه ونتاجه. فهل سيكون محفزاً كافياً لاستعادة موفقة؟ لقد حقق مارتن شهرته وجماهيريته بسبب مخيلته وحدها. كانت إقامة معرض له كفيلة بمظاهرة تحتاج الى استعداد وسيطرة، لأن عوالم لوحاته تتسع لما هو كوني بطبيعة نذيرية وكارثية. كان النقاد يصفون عوالمه بـ»البابلية»، إشارة الى بابل التوراة في المخيلة الغربية. وهو في هذه الخصيصة مفرد لا شبيه له، ولم يأخذ من أحد قبله، ولم يترك أثراً على رسام بعده. ويرى النقاد أن الأثر الوحيد الذي اتضح في القرن العشرين، إنما ظهر على سينما هوليوود، وعلى مخيلتها التي أملتها على قصص اللعنات التوراتية، وجيوش الفرعون التي ابتلعها الموج، وانهيار أعمدة المعابد الخيالية، وانفتاح بوابات الآخرة بالبرق والرعد. استوحى «مارتن» معظم عوالم لوحاته من قصص العهد القديم، وقصيدة الشاعر ميلتون Milton (الفردوس المفقود). ولوحاته «يوشع وهو يأمر الشمس أن تقف»، «الشيطان يرأس مجمع الجحيم»، «الطوفان»... لا تعبر البصر دون أن تترك أثراً استثنائياً في المخيلة لا يزول. ولكن مارتن هذا لم يعد بعد موته كما كان، خاصة بعد حملة الناقد الانكليزي الشهير راسكن Ruskin على ضعف تقنيته و»سوقية عالم مخيلته» على حد قوله. عاش «مارتن» في فرنسا أيضاً. وكانت شهرته وتأثيره فيها لا يقلان عنهما في انكلترا. والموسيقي «بيرليوز» المجايل له، ذو المخيلة العاصفة بالغة الضخامة، كان يجد في عالم «مارتن» ضالته. الغريب أن «بيرليوز» (صاحب «مارش الحجاج» و»مارش الليل» و»رحلة إلى الجحيم») كان قليل الاهتمام بالنشاط التشكيلي في زمانه. ولكن إحدى لوحات «مارتن» استوقفته في هذه المذكرات، وبشيء من التفصيل. إنها «الشيطان يرأس مجمع الجحيم». في عام 1851 ذهب «بيرليوز» الى لندن ببعثة حكومية، وهناك حضر قداساً في «كاتدرائية سانت بول» يتكون من 6500 طفل. المشهد ما فوق الطبيعي، ملك على «بيرليوز» حواسه وعقله وقلبه جميعاً. في ليلة اليوم التالي سجل هذا الحدث بما يشبه هلوسة تخرج بفعل تأمل لوحة «جون مارتن» ذاتها: «حينما عدت لمنطقة «تشلْسي» كنت آمل بنوم هانئ؛ ولكن لياليّ تنتسب لنهارات كهذه لا يسهل النوم فيها. العواصف الهارمونية لعمل موسيقي جديد كانت تدوم في رأسي، رأيت كما يرى النائم «كاتدرائية سانت بول» في دوامة، ورأيت نفسي داخلها ثانية، وبفعل تحول غريب رأيت الكنيسة تصبح مقر الشيطان، التشكيل ذاته الذي في لوحة مارتن، فبدل رئيس الأساقفة استقر الشيطان على عرشه الكنسي، وبدل الآلاف من المتعبدين والأطفال احتشد آلاف من العفاريت والأرواح المعذبة وهي تطلق نظراتها النارية من أعماق العتمة المرئية، والبناء الحديدي للمدرجات الهائلة الاتساع، حيث تجلس الملايين، يتذبذب بطريقة مرعبة، مالئاً المكان بهارموني شنيع الأثر».
توابل
بول مارتن: على مشارف النهايات
06-10-2011