في شهر سبتمبر الماضي، ظهر الدكتور محمد سليم العوا، المفكر الإسلامي والقانوني الكبير، على فضائية "الجزيرة" في برنامج "بلا حدود"، في حلقة شهيرة، أراد منها مقدم البرنامج أحمد منصور "تسليط الأضواء" على ما اعتبر آنذاك توتراً طائفياً ينذر بفتنة بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية في مصر.

Ad

وكان مما أتى به العوا في تلك الحلقة إشارته إلى "جلب بعض المسيحيين الأسلحة من خارج مصر، وتخزينها في الكنائس"، وتحذيره الشديد من أن "الكنيسة وبعض رجالها يعدون لحرب ضد المسلمين".

ولأن العوا مفكر مثقف واسع الإحاطة وعميق المعرفة، فقد رأى أن يختم حديثه بقوله عن المسيحيين المصريين:

"وإذا لم يتوقفوا عن إشعال النار فسيصدق فيهم قول الشاعر:

لئن لم يطفها عقلاء قوم

يكون وقودها جثث وهام

فقبل أن يكون وقودها جثث وهام، عليهم أن يعودوا إلى العقل والرشد بدلاً من الطريق الذي يسيرون فيه... طريق لا يؤدي إلى أي مصلحة".

لم يثبت بالطبع أن المسيحيين المصريين جلبوا سلاحاً من خارج البلاد، وقاموا بتخزينه في الكنائس، ولا أنهم يرغبون في شن حرب ضد المسلمين.

وكل ما حدث منذ ذلك الحين، أن ليلة عيد الميلاد الفائتة شهدت انفجاراً مروعاً أمام كنيسة القديسين في محافظة الإسكندرية شمال البلاد، راح ضحيته نحو عشرين مصرياً؛ أغلبهم من الأقباط الذين كانوا يحتفلون بالعيد في دار عبادتهم، ولم تجد السلطات حتى الآن منفذ تلك الجريمة الشنعاء، وبالتالي فلم تتم محاسبته هو أو من حرضه عليها.

لم تقف الأمور بالطبع عند هذا الحد، فقد قامت ثورة 25 يناير، حيث انصهر الشعب المصري بكل طوائفه وطبقاته في فعل سياسي رشيد ونبيل، أدى إلى إطاحة الرئيس السابق حسني مبارك، وإخضاعه وبعض أركان نظامه لمحاكمة، في ما انخرطت البلاد في ورشة كبيرة مستهدفة إعادة بناء الدولة على أسس أكثر ديمقراطية وعدالة وكفاءة.

لكن الثورة خلفت أيضاً بعض الانفلات الأمني من جراء انهيار جهاز الأمن، ومحاولة بعض قادته معاقبة المواطنين على الثورة عبر ترك المجال سانحاً لأعمال اضطراب وعنف هنا وهناك.

من بين ما أدى إليه هذا الانفلات، حرق كنيستين؛ إحداهما في منطقة أطفيح، بحلوان، جنوب القاهرة، وثانيتهما في منطقة إمبابة بمحافظة الجيزة، فضلاً عن مهاجمة كنيسة ثالثة، ومحاصرة الكاتدرائية الرئيسية في منطقة العباسية بوسط العاصمة من قبل بعض "السلفيين" الثائرين، اعتراضاً على ما قيل إنه "احتجاز الكنيسة لبعض المسيحيات اللاتي انتقلن إلى الإسلام ورفض الإفراج عنهن في محاولة لإرجاعهن إلى المسيحية".

ليس هذا كل ما حدث بحق المسيحيين في الفترة التي تلت تصريحات الدكتور العوا، لكن بعضهم تعرض لممارسة العنف من قبل "إسلاميين"، خصوصاً في أطراف البلاد البعيدة؛ مثل تلك الحادثة الشهيرة التي قام فيها من قيل إنهم "سلفيون" بقطع أذن مواطن قبطي، لأنه "أجر شقة يمتلكها لسيدة سيئة السمعة".

يمكن القول إن تلك الحوادث كلها، على بشاعتها، خصوصا حادثة كنيسة القديسين بالإسكندرية، مما اعتادت مصر عليه في فترات انحدارها وتراجعها الكبير، حيث تقل مناعة البلاد في تلك الفترات، وتصبح معرضة بشكل كبير لأنواع من التردي الفكري والاجتماعي والسياسي، وعلى رأسها بالضرورة "الفتنة الطائفية".

لكن ما لا يمكن استيعابه حقاً أن يكون الرجل الذي أتى بهذه التصريحات الخطيرة قبل أقل من عام أحد أهم المرشحين الرئاسيين المحتملين في مصر بعد الثورة.

لا يستند الدكتور العوا في ترشيحه إلى مرجعيته الواسعة كمفكر إسلامي مهم، ولا إلى دوره في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ولا إلى مكانته المهنية كمرجع قانوني كبير فقط، ولكن أيضاً إلى كونه يحظى بقبول بين تيارات إسلامية متنوعة، وباحترام واهتمام من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يدير شؤون البلاد حالياً، وإلى دعم إعلامي من منابر عديدة؛ بعضها وطني وبعضها وافد من الخارج، وإلى علاقات طيبة بعدد من دول العالم الإسلامي، على رأسها إيران، وأيضاً إلى تأييد قطاع من بسطاء المصريين، الذين أحبوا فيه "غيرته الشديدة على الإسلام، ودفاعه عن المسلمين في مواجهة المسيحيين، الذين يخزنون السلاح في الكنائس، ويعدون لحرب ضد أتباع الإسلام".

قبل أيام، نظم المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر استطلاع رأي إلكترونياً على صفحته على موقع "فيس بوك"، يسأل فيه زوار الصفحة عن مرشحهم الرئاسي المفضل، وهو الاستطلاع الذي أثار ضيقاً بقدر ما أثار من قلق لدى النخبة المصرية الراغبة في إقامة دولة مدنية ديمقراطية، لا تقع في أيدي المتأسلمين خالطي الدين بالسياسة، ولا في أيدي العسكر لإعادة إنتاج مشكلات العقود المريرة السابقة، ولا في يد تحالف بينهما يأخذ البلاد إلى نموذج أشبه بما وصل إليه السودان، عوضاً عما تأمله من نزوع نحو الحداثة والتقدم والمعاصرة. والغريب أن هذا الاستطلاع، غير العلمي، والذي لم يصمم بشكل يوضح طريقة اختيار العينة وقدرتها على تمثيل مجتمعها، ولم يمنع التصويت المتكرر، أسفر عن احتلال العوا المرتبة الثانية بين مرشحي الرئاسة الأكثر تفضيلاً، متقدما في هذا بشكل كبير على مرشح رئاسي محتمل ذي حظوظ جيدة مثل عمرو موسى.

يبدو أن للدكتور العوا حظوظاً في الترشح والمنافسة لا يمكن تجاهلها بالطبع؛ وسواء كان هذا الاستطلاع يعكس موقفه الحقيقي في حلبة التنافس، أو يراد له أن يعكس تقدمه وامتلاكه فرصة للفوز، فالأمر يكشف عن خلل خطير، خصوصا عندما يكون منظم الاستطلاع سلطة أوكلت لها الثورة حق إدارة الفترة الانتقالية، لثقتها بنزاهتها وحيادها وترفعها عن المصالح الضيقة.

يتناقض موقف العوا بالطبع مع ما يجب أن يتحلى به رئيس الدولة المصرية، أو من ينافس للفوز بهذا المنصب، من توازن إزاء مواطنيه، وتفهم لقيم الرئاسة، التي تستلزم الفطنة والكياسة والدبلوماسية، بقدر ما تستوجب توافر القدرة على السمو فوق الخلافات والاستناد إلى القانون والوقوف على مسافة واحدة من المواطنين كافة.

لكن هذا الأمر مردود عليه، بأن العوا لم يقل ما قاله وفي ضميره أو نيته الترشح للرئاسة، خصوصاً أن أقواله تلك جرت قبل شهور من اندلاع الثورة، حيث لم يكن أكثر المتفائلين يعتقد بتغير الأحوال على النحو الذي صارت عليه.

لكن العوا راح أيضاً بعد إعلان رغبته في الترشح يفصح عن سلوك سياسي لا يصادفه الكثير من التوفيق؛ فقد وصف الرجل من يطالب بإعداد الدستور قبل الانتخابات البرلمانية بأنه يأتي بـ"بدعة"، بل وذهب إلى أن هؤلاء الذين يرغبون في تأجيل الانتخابات، لمنح فرصة للأحزاب المدنية الوليدة لتهيئة أوضاعها، إنما هم "من شياطين الإنس".

ينضم العوا إلى مرشحين آخرين من التيار الإسلامي؛ بعضهم بات أكثر استعلاء وتضخماً في أحاديثه وتحركاته، وبعضهم الآخر يحرم أتباعه انتخاب العلماني والليبرالي للرئاسة، بدعوى أن من يقدم على ذلك إنما "يتحدى الله ورسوله"، في ما يتفق جميعهم على استهداف البسطاء من المصريين الذين تتعلق قلوبهم بالتدين، ويحبون كل من يتحدث بما قاله الله وأتى به رسوله.

وأياً كان ما ستسفر عنه الانتخابات الرئاسية المنتظرة، وما سيسبقها من حراك سياسي كبير على صعيدي الانتخابات البرلمانية وإعداد الدستور، فإن الثابت حتى الآن أن "المتأسلمين" سيشكلون رقماً مهماً في المنافسة، مستندين إلى عصبية واستعلاء وتحجر وخلط مقيت بين السياسة والدين، ومدعومين بتصويت واسع قوامه الجهل والفقر والأمية والتعصب، ومستفيدين من رخاوة القوى المدنية والليبرالية، ومساعدات أصحاب الغرض في الإقليم.

* كاتب مصري