لم يعد مطلع الربيع بعيداً. تقلبات المناخ حيرت طبع الأشجار والنبات، حتى أن بعضها فضّل أن يورق. وذهابي إلى معرض الفنان البريطاني ديفيد هوكني في الأكاديمية الملكية كان أكثر من ملائم، لا لأن هوكني يعتبر أكبر فنان بريطاني اليوم، ولا لأني أحب أسلوبه في التقنية واللون فقط، بل لأن المعرض الضخم الذي يظم قرابة مئتي لوحة، منها لوحات بالغة الضخامة، ينصرف بجملته لرسم الطبيعة في الريف البريطاني المثير للحيوية. وكنت أتخيل كيف سيجد هوكني فرصةً في هذا لاستثارة رغباته اللونية المعهودة.

Ad

وبالفعل، ما إن خطوت إلى أول قاعة حتى أحاطت بي الألوان بالغة الجرأة من لوحاته، والتي تكاد الواحدةُ منها تغطي جداراً برمته. إنه شيء مسرّ حين تجد أن فناناً بارعاً يستطيع أن ينتشلك من مناخ أواخر الشتاء اللندني، ويُنسيك لفترة طبيعة اللوحة البريطاني الكابية، الميالة إلى الألوان الداكنة.

يبلغ هوكني اليوم الرابعة والسبعين من العمر. أبرز فنان بريطاني بعد رحيل الفنان لوسيان فرويد العام الماضي. وبالرغم من أنه هاجر إلى أميركا وأقام في لوس أنجلس حتى اليوم إلا أنه لم ينقطع عن زيارة أمه في قريته، ومواصلة الرسم على أرضه، والانتساب إلى تيار الرسم البريطاني. ولعله أسهم في دفع سمعة الفن البريطاني إلى الأمام بفعل فرادة أسلوبه أولاً، وأنه استطاع أن يقرّب الفن الحديث من ذائقة الجمهور العام. فرسم المنظر الطبيعي عُرفٌ فني في الرسم البريطاني، تجد قاعدته راسخة لدا فناني التيار الطبيعي السابقين كونستابْلوغينزبورو، ولدى رائد الانطباعية تيرنر. ولأن هوكني حلقة في سلسلة أعلام الفن السابقين، ويفضل أن يكون داخل التاريخ الفني، ولا يميل إلى قفزات ما بعد الحداثيين، فإن معرضه هذا بدا لي منسجماً مع النفس تماماً. خاصة وأن الفنان جعل كل أعمال المعرض تدور حول محور المنظر الطبيعي. الأمر الذي اثار حماس الجمهور، وجعلني أنتظر قرابة نصف ساعة داخل الطابور لكي أحصل على تذكرة، مع أن المعرض افتتح قبل شهر ونصف.

إن أولَ شيء يُلم بك حين تدخل المعرض، خاصة إذا كنت على معرفة بفن هوكني، أن هذا الفنان قد وظف أسلوبه الفريد لرسم المنظر الطبيعي، إلى جانب هذا الفيض من الألوان الجريئة التي تمسك بك من أول لحظة، وتأخذ بيدك إلى ما يملي عليك الفنان من رؤى لريف منطقته يوركشاير.

المعرض يتوزع على ثلاث عشرة قاعة كبيرة، وتحت عناوين محددة: مقدمة، أشجار ثكسينديْل (قريته)، مناظر مبكرة، أشجار وطواطم، مطلع الربيع، خطبة الجبل...الخ. وتحت كل عنوان يتسع أمامك المشهد الطبيعي، وتنتصب فيه الشجرة أو الأشجار، لأن الشجرة في لوحته حافز أساسي، تجسد بالنسبة للفنان قوة حياة بالغة الحيوية، في كثافة أغصانها الصيفية أو في عريها الشتائي. وهوكني مفتون بتغير المواسم وتقلبات الطبيعة. فقد تقع على أربع لوحات ضخمة جداً لمنظر طبيعي واحد يتشكل من ثلاث أشجار وحقل، ولا تتغير فيه إلا ما يتغير في الطبيعة عبر الفصول: الربيع، الصيف، الخريف والشتاء. وهنا يقع الفنان على فرصته مع التقنية والألوان. وهوكني ملوّن بارع لا في جرأة اللون وحدها، بل في هذا الإشعاع الذي يبهر العين ويثير المشاعرالصادر عن ألوان تستحضر علاقاتُها ببعضها لوحات غوغان وفان كوخ.

إلى جانب اللوحات المبكرة، والأخرى التي تعود إلى الثمانينيات والتسعينيات يقدم المعرض أعمالاً جديدة ثلاثة: «خطبة على جبل»، استوحاها من لوحة للرسام الفرنسي كلوديه (1604-1682)، متأثراً لا بموضوعها التوراتي، بل بتأليفها الشكلي، ولذلك يتنوع في رسمها على أكثر من كانفس بأساليب شتى. وعمل فيديو على شاشة من ثماني عشرة قطعة متراصة، مقاربة لتقنية بعض أعماله الكبيرة التي تتألف من عدد من لوحات صغيرة. وعمل يحتل أكبر القاعات بعنوان «مجيء الربيع في ولدغيْت» الذي يتألف من اثنتين وثلاثين لوحة، إلى جانب لوحات شكّلها من صور  نفّذها بواسطة الكمبيوتر. وتطابق هذه اللوحات مع الواقع جعلها واهنة التأثير بالمقارنة مع لوحات الرؤى الحديثة التي تبلغ أفق السوريالية.