يستحق القذافي الإعدام ألف مرة ومرة فهذا لا نقاش فيه ولا اعتراض عليه، فهو ارتكب من الجرائم خلال سنوات حكمه الطويلة ما يؤهله لأن يكون في مقدمة رتل طغاة التاريخ، مثله مثل بول بوت، الذي أقام هرماً مرتفعاً من جماجم الذين ذبحهم من أبناء شعبه الكمبودي، لكن حرصاً على صورة هذا العهد الجديد وحرصاً على ألّا تدخل ليبيا دوامة الثارات المتبادلة والعنف الدموي فقد كان الأفضل أن يتم إلقاء القبض عليه حيّاً وتقديمه لمحكمة عادلة وفقاً للعهد الذي قطعه على أنفسهم كبار المسؤولين في المجلس الوطني الانتقالي.

Ad

ما كان يجب أن يجري هذا الذي جرى، فبالإضافة إلى ضرورة الحفاظ على صورة العهد الجديد ناصعة وغير ملطخة بالدماء حتى وإن كانت دماء غير أبرياء فالقذافي الذي قضى في الحكم أكثر من أربعين عاماً يُعتبر مستودعاً ثميناً لأسرار كثيرة لا شك أن ليبيا بحاجة إليها ولا شك أيضاً أنها في حاجة إلى أموال طائلة ربما أن "ملك ملوك إفريقيا" غير المأسوف عليه وعلى جماهيريته قد خبأها في مكان غير معروف لأنه كان يعرف بالأكيد أن مصيره سيكون هذا المصير الأسود.

وحقيقة, وهذا نقوله بدافع الحرص والخوف على ليبيا الجديدة, إنه كان أفضل كثيراً أن يلقى القبض على القذافي حياً وأن يحاكم محاكمة عادلة، فالصور التي تناقلتها الفضائيات, هي جزءٌ يسير مما كان عليه الواقع بالتأكيد, بالإضافة إلى أنها مقززة ومرعبة ولا تليق بعهد واعد لا يجوز أن يبدأ بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة فإن أسوأ ما فيها هو أنها قد تُدْخِل هذا البلد الذي عانى شعبه بما فيه الكفاية تحت حكم أحد أسوأ طغاة التاريخ في دوامة عنفٍ قد يستمر لسنوات طويلة.

وللتذكير فقط فإن المشاهد المرعبة لِلَحظة إلقاء القبض على القذافي والتخلص منه التي تناقلتها شاشات فضائيات العالم كلها مع الفرق بين الحالتين تشبه تلك المشاهد المرعبة أيضاً, ويومها لم تكن هناك فضائيات وكان إعلام الصورة لا يزال في بداياته, التي خلفها للأجيال انقلاب تموز (يوليو) عام 1958 الدموي في العراق الذي سماه أصحابه وورثة أصحابه ثورة واعتُبِرَ يوم تنفيذه عيداً وطنياً حتى في هذا العهد الجديد... وللأسف.

لا نتمنى هذا لليبيا، ومع تأكيد أنه لا يوجد وجه شبه بين حالتها هذه وبين تلك الحالة العراقية فإن المعروف أن العراق، لأن الدم يستدرج الكثير من الدم، قد دخل بعد ذلك الانقلاب الإجرامي وبعد مشاهد السّحل المرعبة في شوارع بغداد ووجبات الإعدامات بلا محاكمات التي جرت في قصر الرحاب دوامة العنف التي لا تزال مستمرة حتى الآن والتي هناك احتمال لا نتمناه باستمرارها لسنوات مقبلة طويلة.

في كل الأحوال لقد جرى ما جرى والمفترض, لتدارك ألّا تتكرر في ليبيا التجربة العراقية المُكلفة مع التأكيد مرة أخرى على الفرق الشاسع بين الحالتين, فإن المنتظر أن يسارع المجلس الوطني الانتقالي إلى لملمة الأمور بسرعة وأن يضع حداً لكل هذه الفوضى العارمة، ولكل هذا التسيب ولظاهرة الميليشيات المتعددة غير المنضبطة وخصوصا أن خيرات هذا البلد تجعله هدفاً للطامعين وما أكثرهم وتجعله مهدداً, هذا إذا لم يجرِ ضبط الأمور واستيعاب كل القوى في إطار ديمقراطي واحد بدون تأخير, بأن يصبح ميدان معركة لصراعات الدول الكبرى التي هناك مؤشرات كثيرة على أنها ذاهبة إلى منافسات ساخنة على كعكته منذ الآن.