كثيراً ما أتساءل عن جدوى الشعر في هذا الزمان! ليس تقليلاً من تأثيره وجدواه بقدر ما هو تساؤل عن إمكانية صمود الشعر في عصر له هذا الإيقاع المخيف في سرعته وسريانه الأهوج. إذ ما تكاد الكلمة أو الصورة تظهر على الشاشة الإلكترونية "بعد أن غدت الحياة إلكترونية بكل تفاصيلها"، إلا وتختفي في لمح البصر بلا أثر! لتأتي غيرها ثم غيرها في سياق تتابعي لاهث، لتستقر في نهاية اليوم أو نهاية الساعة – بلا مبالغة – في "الداست بن" أو سلة المهملات الإلكترونية!

Ad

ما قيمة الخبر أو المقال أو الحوار أو النص الشعري الآن يا ترى؟! وأي عزاء نقدمه لأنفسنا في ظل الشاشة الإلكترونية التي لا تحفظ العهد ولا تعرف الوفاء؟! فكل شيء قابل للمسح والإلغاء والاندثار بضغطة زر أو بحركة طائشة أو بعطب يصيب اللاب توب حين تنسكب قهوتك الصباحية على الكي بورد – مثلاً – لتنهي في لحظة واحدة إرثك وعصارة فكرك وسهر لياليك!

رحم الله أيام الكتابة والطباعة الورقية، كم كانت صادقة الوفاء حافظة للعهد! يكتب طه حسين أو العقاد مقالاً فيفترش الصحيفة اليومية بأبهة وكبرياء، ثم ينتقل مصنفاً ومحتفىً به إلى كتاب يوثق ميلاده وأثره، ثم تعاد طبعاته عبر السنوات والأجيال ليحمل عبق المرحلة ومسيرة حياة. ويقرظ أحمد شوقي أو السياب أو فهد العسكر قصائدهم على مهل، تاركين الشعر يأتي كيفما يشاء هو ويشاء له دلاله ومزاجيته، ليُلقى في الجلسات الحميمة، ثم عبر المنابر والمنصات، ثم بعد لأي عبر الدواوين المطبوعة، وأخيراً يرقد في مجموعات ومجلدات تاركاً للزمن والتاريخ مساحة من الثقة والأمان المطلق.

هاجمتني هذه الخواطر حول إمكانية بقاء الشعر وخلوده في أيامنا هذه، متزامنة مع خبر احتفاء فلورنسا بشاعرية خليفة الوقيان، فشكرتُ زمن الوقيان وظروف المرحلة والتاريخ اللذين تهيآ لإنضاج تلك التجربة الجميلة على مهل وتؤدة. حين بدأ الوقيان مسيرته الإبداعية مطلع الستينيات في القرن الماضي كان للشعر مكانة وثقل، وكان المجتمع الناهض حديثاً ما يزال يرى للشاعر قدْراً وأهمية لا تُنكر، في عهد لم تتغلب فيه بعد سطوة الإبداعات التكنولوجية وإغراءاتها، إذ كان ما يزال للكتاب والديوان صفة القداسة والتبجيل.

بيد أن الشعر يحتاج إلى جانب السمات الشخصية والاستعداد الفكري والغنى الروحي إلى ظروف وضرورات لها علاقة بالمرحلة وملابسات الواقع الحياتي، حتى تنمو شاعرية الشاعر وتتفتح وتزدهر. وأرى أن هذه العوامل الظرفية كانت قد تضافرت لصياغة الشخصية الأدبية في خليفة الوقيان ورفدت بلا ريب تألقه وتطوره. من هذه العوامل ارتباطه المبكر بمؤسسة ثقافية مهمة وهي رابطة الأدباء التي وجد فيها البيئة المناسبة لنشاطه وتحركه ومساهماته. وقد كان لهذا الجو المشجّع الأثر الأكبر في تطور أدائه والتفات المهتمين والدارسين لشعره منذ بداياته الباكرة. يضاف إلى ذلك جو القرب النفسي والفعلي من صحبة تتجانس أهواؤها ومشاربها وتتبادل الاهتمام والودّ والدعم المعنوي. ويحضرنا في هذا الصدد أيضاً عمله في مجالس إدارات الرابطة المتعاقبة، وكتاباته في مجلتها "البيان"، وترأسه لأمانتها العامة بين 1988 و1990. ولو كان خليفة الوقيان بعيداً عن هذه الأجواء لربما غمره الإهمال أو تعثرت تجربته الشعرية.

ومن عوامل تكريس الشخصية الأدبية للوقيان أيضاً ما للمجلس الوطني من تأثير معنوي في دعم مسيرته الثقافية، وهو الذي أسهم في تأسيسه ورعاية مشاريعه الثقافية الطامحة. وقد أتاحت له سنوات عمله في المجلس الوطني فرصة الاقتراب من الأجواء والمشاهد الثقافية داخل الوطن وخارجه، وفرصة التفاعل مع الشخصيات الأدبية المرموقة ومدّ جسر التواصل والتأثير المتبادل. الأمر الذي ساهم في وضعه داخل إطار الشخصيات الثقافية المهمة، وضمن الاحتفاء بتجربته الشعرية ليس على النطاق المحلي فحسب، بل على مستوى الوطن العربي أيضاً.

نستعيد بعجالة هذا الزخم الحياتي والظرفي ونحن بصدد تحليل "الحالة الشعرية" والدعامات الممكنة لتكريسها كحالة ثقافية، متسائلين في الوقت ذاته عن إمكانية تكرار مثل هذا المشهد في ظل واقع آني بهذا الإرباك والهلامية، يجاهد فيه المبدع دون كبير أثر أو صدى، ويمر خلاله الشعر مرّ السحاب!