حياة حافلة، من دون شك، تلك التي عاشها المشير طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يحكم مصر في فترة انتقالية بعد اندلاع ثورة 25 يناير، وهي حياة أبت ألا تنتهي بصورة تقليدية كتلك التي عاشها المئات من زملائه من قادة الجيش المصري.

Ad

يعد طنطاوي ضابطاً جيداً وقائداً رفيعاً حسن الخدمة بمعايير القوات المسلحة المصرية وتقاليدها العريقة؛ فالرجل الذي ولد في عام 1935، وتخرج في الكلية الحربية عام 1956، تدرج في مناصب عديدة مهمة؛ منها قيادة كتيبة ولواء وجيش، كما عمل ملحقاً عسكرياً في دولتين، وترأس الحرس الجمهوري، وهي قوات النخبة المميزة المنوط بها حماية الرئاسة، كما ترأس إدارتي التخطيط والعمليات.

الأهم من ذلك بالطبع أنه، وكما يحب أن يقول عن نفسه "مقاتل" بامتياز؛ فقد شارك في صد العدوان الثلاثي 1956 فور تخرجه من الكلية الحربية في رتبة ملازم، واشترك في حربي 1967، والاستنزاف (1967- 1972)، قبل أن يبلي بلاء حسناً في حرب أكتوبر 1973، التي حصل بعدها على نوط الشجاعة العسكري.

لم يكن مستغرباً بالطبع أن يتولى طنطاوي منصب وزير الدفاع في مصر عام 1991، فذلك هو المآل الطبيعي لأصحاب الطموح والهمة والخدمة الطويلة المميزة المنضبطة من أمثاله، لكن المستغرب كان بقاءه في المنصب لمدة عشرين سنة متواصلة، إلى حد أن أصبح واحداً من أقدم وزراء الدفاع في العالم؛ وهو الأمر الذي خلق صلة وثيقة بينه وبين المنصب الرفيع في الحياة السياسية المصرية، وجعله لا يتصور أبداً أن يخرج منه يوماً ليمضي شطراً من حياته خارجه.

يقول بعض من احتك بطنطاوي، في فترات مختلفة قبل ثورة 25 يناير، إن هناك ثلاث سمات أساسية في ما يتعلق بخدمته الطويلة المظفرة؛ أولاها أنه منضبط وصارم، وثانيتها أنه عنيد ومتصلب، وثالثتها أنه لا يتصور نفسه خارج موقعه على رأس مؤسسة الجيش المصري أبداً.

ثمة ما يقال أيضاً عن أنماط سلبية في إدارته السياسية والمالية والإدارية للمؤسسة، لكنها أقوال ليست محل اتفاق واسع، رغم أنها تبدو أكثر اتساقاً مع طبيعة المجال السياسي والأخلاقي الذي ازدهر خلاله طنطاوي وترقى ورسخ في موقعه.

يبقى يوم 10 فبراير 2011 يوماً مفصلياً في حياة طنطاوي؛ ففي هذا اليوم أصدر الرجل، من موقعه على رأس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ما عُرف بـ"البيان الرقم 1"، وهو البيان الذي أعلن فيه المجلس، عشية إعلان تخلي مبارك عن السلطة، أنه "في حالة انعقاد دائم برئاسة المشير حسين طنطاوي القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي، لبحث الإجراءات والتدابير اللازمة للحفاظ على الوطن ومكتسبات وطموحات شعب مصر العظيم".

في تلك الليلة حدث التحول الفارق الخطير، حيث قرر طنطاوي تنحية مبارك، واستلام السلطة، والبقاء فيها لحين ترتيب الأوضاع في المرحلة الجديدة، وهو ما أُعلن بالفعل يوم 11 فبراير على لسان اللواء عمر سليمان.

على مدى 11 شهراً من عمر الثورة، توافرت إشارات عديدة ترجح أن طنطاوي ربما سعى إلى اختبار فكرة ترشحه للرئاسة، رغم أنه حرص على نفي هذه الفكرة أكثر من مرة.

من ذلك، أن المشير ارتدى بدلة مدنية وظهر في أحد شوارع وسط العاصمة مخاطباً المارة ومتباسطاً معهم، وبعدها قام بافتتاح عدد من المشاريع، حيث تحدث أمام الإعلام بلغة كتلك التي كان يستخدمها مبارك، وبعدها ظهر ما قيل إنه "ائتلاف" يدعو إلى جمع توقيعات لترشيح المشير رئيساً.

لقد كان أداء المجلس الأعلى للقوات المسلحة في إدارة الفترة الانتقالية سيئاً ومتخبطاً وبطيئاً ومعانداً للثورة بدرجة كبيرة، بحيث لم تتوافر أي ذرائع وجيهة لدعم فكرة ترشيح المشير رئيساً، ولم تكن الثورة المصرية بالطبع لتسمح أن يتم تحويلها إلى انقلاب عسكري، يُستبدل خلاله جنرال بآخر في حكم البلد، وبالتالي فلم يعد مقبولاً بأي حال مقاربة مثل تلك الفكرة أو طرحها من قريب أو بعيد، خصوصاً مع تصاعد الانتقادات الحادة لأنماط الأداء السيئة للمؤسسة العسكرية في ملفات قمع الثورة، والارتهان للإسلاميين، وعدم تصفية النظام السابق، والتهاون في تحقيق الأمن.

أمضى طنطاوي عشرين سنة في منصبه الرفيع على رأس المؤسسة العسكرية المصرية، وبالتالي يمكن تفهم أن عشرات من القيادات النابهة والموهوبة تم وأد فرصتها في تولي المنصب الرفيع عبر إحالتها على التقاعد، كما يمكن فهم طبيعة الرجال الذين استطاعوا الوصول إلى المواقع العليا في تلك المؤسسة والبقاء فيها، في مثل تلك الفترة الحرجة، لجهة الولاء والامتثال والطاقة والهمة والطموح والقدرة على مناقشة "الرغبات والأوامر" القيادية، في ظل قيادة "تاريخية" بامتياز، لا تريد أن تمضي يوماً من حياتها خارج موقعها الأثير.

يبدو إذن أن الحديث عن جنرال من المؤسسة العسكرية يخلع بذلته الرسمية ويُرشح للرئاسة غير مطروح، بالنظر إلى أن هذا الطرح ينطوي بالضرورة على أن يؤدي المشير طنطاوي التحية العسكرية لأحد مرؤوسيه، وهو أمر لا يستقيم مع طبيعة التحليل السابق.

ويبدو أيضاً أن الرجل الذي حكم البلاد منذ 11 فبراير الماضي سيكون مضطراً لأن يؤدي التحية العسكرية لرئيس منتخب، سيكون بحكم الدستور القائد الأعلى للقوات المسلحة.

حينما تم الإعلان عن وثيقة السلمي، وهي الوثيقة التي طرحها نائب رئيس الوزراء السابق الدكتور علي السلمي لتكون وثيقة استرشادية عند وضع الدستور، وتم إجهاضها تماماً بعد اتفاق معظم القوى السياسية على عوارها، تصور البعض أنها تنطوي على ما يمكّن الجيش من حكم البلاد، عبر المادتين التاسعة والعاشرة، اللتين تبقيان للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحق في مناقشة ميزانيته وتشريعاته، وتمكنان "مجلس الدفاع والأمن القومي" من التحكم بقرار الحرب والنظر في ميزانية الجيش.

والواقع أن الجيش المصري، بقيادة طنطاوي، لا يريد، لأنه لا يستطيع، أن يحكم مصر في تلك الفترة، ولكنه في الوقت نفسه، لا يريد، لأنه لا يتحمل، أن يُحكم في إطار ترتيبات ما بعد الفترة الانتقالية.

واجهت الثورة المصرية الكثير من العقبات والمشكلات الحادة والعميقة، التي زعزعت اليقين في نجاحها وقدرتها على الاكتمال، لكن العقبة الكبيرة في انتظارها ستكون في الطريقة التي ستنظم بها وضع الجيش، الذي تريده صلباً قائماً للنهوض بواجباته الوطنية، والذي يريد ألا يُحكم، بعدما أخفق في الاحتفاظ بالحكم الذي وصل إليه عام 1952.

* كاتب مصري