إعادة النظر في حتمية النمو

نشر في 06-01-2012
آخر تحديث 06-01-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن الاقتصاد الكلي الحديث كثيراً ما يبدو وكأنه يتعامل مع النمو الاقتصادي السريع والمستقر باعتباره روح السياسة ومنتهى غاياتها. ويتردد صدى هذه الرسالة في المناقشات السياسية، وغرف اجتماعات مجالس إدارة البنوك المركزية، والعناوين الرئيسة على الصفحات الأولى، ولكن هل من المعقول حقاً أن نجعل من النمو الهدف الاجتماعي الرئيس إلى الأبد، كما تفترض كتب الاقتصاد ضمنا؟

لا شك أن العديد من منتقدي الإحصاءات الاقتصادية القياسية ساقوا العديد من الحجج لمصلحة الاستعانة بقياسات أوسع نطاقاً للرفاهة الوطنية، مثل متوسط العمر المتوقع عند الولادة، ومعرفة القراءة والكتابة، وما إلى ذلك. وتشتمل مثل هذه التقييمات على تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية، وأخيراً لجنة قياس الأداء الاقتصادي والتقدم الاجتماعي التي ترعاها فرنسا بقيادة خبراء الاقتصاد جوزيف ستغيليتز، وأماريتا سِن، وجان بول فيتوسي.

بيد أن الأمر قد ينطوي على مشكلة أعمق من ضيق الأفق الإحصائي: فشل نظرية النمو الحديثة في التأكيد بالقدر الكافي على أن البشر في حقيقة الأمر مخلوقات اجتماعية، فهم يقيمون رفاهتهم استناداً إلى ما يرونه من حولهم، وليس استناداً إلى معيار قياس مطلق.

من الملاحظات الشهيرة التي أبداها رجل الاقتصاد ريتشارد استيرلين أن الدراسات الاستقصائية "للسعادة" تُظهِر قدراً ضئيلاً إلى حد مدهش من التطور في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، على الرغم من ميل الدخول إلى النمو بشكل واضح. وغني عن القول إن النتيجة التي خلص إليها استيرلين تبدو أقل معقولية بالنسبة إلى الدول الفقيرة للغاية، حيث تسمح الدخول السريعة الارتفاع للمجتمعات عادة بإدخال تحسينات كبيرة على حياتهم، ومن المفترض أن يرتبط هذا بقوة بأي قياس معقول للرفاهة الإجمالية.

ولكن في الاقتصادات المتقدمة، يكاد يكون من المؤكد أن السلوك المعياري يشكل عاملاً بالغ الأهمية في تحديد الكيفية التي يقيم بها الناس رفاهتهم. وإذا كان الأمر كذلك، فإن نمو الدخل المعمم قد يؤدي إلى رفع مثل هذه التقييمات بوتيرة أبطأ كثيراً مما قد يتوقع المرء بالنظر إلى الكيفية التي قد يؤثر بها ارتفاع دخل أحد الأفراد نسبة إلى الآخرين على رفاهته. وعلى نحو مماثل فإن معايرة السلوك قد تعني ضمناً حسابات مختلفة للمقايضات بين النمو وغيره من التحديات الاقتصادية، مثل التدهور البيئي، مقارنة بما تشير إليه نماذج النمو التقليدية.

ولكن إحقاقاً للحق، يتعين علينا أن نعترف بأن قسماً ضئيلا، ولكنه بالغ الأهمية من الأدبيات الاقتصادية، يُقِر بأن الأفراد يعتمدون بشدة على المعايير التاريخية والاجتماعية في تحديد اختياراتهم وتوجهاتهم الاقتصادية. ومن المؤسف أن هذه النماذج تفرض صعوبة واضحة في معالجتها وتقديرها وتفسيرها. ونتيجة لهذا فإن تطبيقها يميل إلى التركز بشكل أساسي في سياقات بالغة التخصص، مثل الجهود الرامية إلى تفسير ما يسمى لغز علاوة الأسهم (الملاحظة التجريبية التي تؤكد أن الأسهم تدر على المدى البعيد عائدات أعلى من السندات).

والواقع أن الهوس بتعظيم نمو متوسط الدخل في الأمد البعيد إلى الأبد ينطوي على قدر من السخف يتمثل بإهمال مخاطر واعتبارات أخرى، ولنتأمل هنا تجربة فكرية بسيطة. تخيل أن نصيب الفرد في الدخل الوطني (أو مقياس آخر أوسع للرفاهة) من المفترض أن يرتفع بنسبة 1% سنوياً على مدى القرنين المقبلين. (هذا هو الاتجاه التقريبي لمعدل نمو نصيب الفرد في الدول المتقدمة في الأعوام الأخيرة). فمع نمو الدخل السنوي بنسبة 1%، فإن الجيل الذي سيولد بعد سبعين عاماً من الآن سوف يتمتع بضعف متوسط الدخل الحالي تقريبا، وعلى مدى قرنين من الزمان سوف ينم متوسط الدخل إلى ثمانية أمثاله.

والآن فلنفترض أننا نعيش في ظل اقتصاد أسرع نموا، حيث يرتفع نصيب الفرد في الدخل بنسبة 2% سنويا، وفي هذه الحالة فإن نصيب الفرد في الدخل سوف يتضاعف بعد 35 عاماً فقط، ثم يرتفع إلى ثمانية أمثال مستواه الحالي في غضون قرن واحد من الزمان.

وأخيرا، اسأل نفسك إلى أي مدى قد تبالي حقاً إذا كان الأمر قد يستغرق مئة أو مئتين أو حتى ألف عام قبل أن يتضاعف مستوى الرفاهية إلى ثمانية أمثاله. أليس من المنطقي أن تقلق حول ما إذا كانت الصراعات أو التحديات مثل مشكلة الانحباس الحراري العالمي قد تؤدي إلى كارثة تقذف بالمجتمع إلى الوراء قرونا من الزمان؟

حتى لو فكرنا بقدر كبير من ضيق الأفق فيما يتصل برفاهة أحفادنا، فمن المفترض أننا نتمنى لهم أن يزدهروا وأن يتمكنوا من الإسهام بشكل إيجابي في مجتمعاتهم في المستقبل، وإذا افترضنا أن حالهم سوف تكون أفضل كثيراً من حال جيلنا الحالي، فإلى أي مدى قد يشكل مستوى دخولهم المطلقة أهمية؟

ربما ينبع الأساس المنطقي الأكثر عمقاً لحتمية النمو في العديد من البلدان من المخاوف المتصلة بالهيبة الوطنية والأمن القومي. في كتابه المؤثر الذي نشر في عام 1989 بعنوان "صعود وسقوط القوى العظمى"، يستنتج المؤرخ بول كينيدي أن ثروة أي بلد وقوته الإنتاجية نسبة إلى البلدان الأخرى تشكل في الأمد البعيد المقياس الأساسي لتحديد مكانته العالمية.

ولقد ركز كينيدي بشكل خاص على القوة العسكرية، ولكن في عالم اليوم تتمتع الاقتصادات الناجحة بمكانة مرموقة فيما يرتبط بالعديد من الأبعاد، ويهتم صناع القرار السياسي في كل مكان وبشكل مشروع بترتيب اقتصادهم الوطني. لا شك أن السباق الاقتصادي في السعي إلى اكتساب السلطة العالمية يشكل أساساً مفهوماً للتركيز على النمو في الأمد البعيد، ولكن إذا كان هذا التنافس يشكل حقاً مبرراً رئيساً لهذا التركيز، فإن هذا يعني أننا لابد أن نعيد النظر في نماذج الاقتصاد الكلي القياسية، التي تتجاهل هذه القضية بالكامل.

بطبيعة الحال، تنظر البلدان في العالم الحقيقي إلى النمو في الأمد البعيد باعتباره جزءاً لا يتجزأ من أمنها الوطني ومركزها العالمي. والواقع أن البلدان المثقلة بالديون، وهي المجموعة التي تضم اليوم أغلب الاقتصادات المتقدمة، تحتاج إلى النمو لمساعدتها على الخروج من ورطتها، ولكن ما دمنا نتحدث عن افتراض بعيد الأمد، فإن حجة التركيز على النمو ليست شاملة كما يريد لنا العديد من صناع القرار السياسي والمنظرين الاقتصاديين أن نتصور.

في فترة تتسم بقدر عظيم من عدم اليقين الاقتصادي، قد يبدو من غير اللائق أن نشكك في حتمية النمو، ولكن مرة أخرى، ربما كانت الأزمة هي على وجه التحديد المناسبة الأكثر ملاءمة لإعادة النظر في الأهداف البعيدة الأمد للسياسة الاقتصادية العالمية.

* كينيث روغوف | Kenneth Rogoff ، أستاذ الاقتصاد والسياسة العامة بجامعة هارفارد، وكان يشغل منصب كبير خبراء الاقتصاد لدى صندوق النقد الدولي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top