على امتداد أكثر من 8 مقالات كان الجامع الرابط بينها البحث عن إجابة شافية لسؤال النهضة الكبير: لماذا تقدم الآخرون وتخلفنا، عبر طروحات فكرية شخصت الداء وصولاً إلى علة العلل، منها الطرح الفكري للبليهي الذي ركز على التخلف الثقافي كعلة أم في الإخفاق العربي المزمن والمعوق الأكبر للتنمية، والمغذي للتخلف العلمي كالاستبداد السياسي والتطرف وعدم قبول الآخر.

Ad

وفي البداية أود تسجيل ملاحظتين: الأولى: أن المقصود بالثقافة هنا الثقافة المجتمعية السائدة لدى الرأي العام في المجتمعات العربية التي يتشربها الأفراد، ويتبرمجون عليها منذ طفولتهم، فتصوغ عقلياتهم وسلوكياتهم ونظرتهم للآخرين، والثانية: أن المقصود بتحليل هذه الثقافة ونقدها الجانب السلبي المعوق للتقدم لا الجانب الإيجابي المتضمن قيم المروءات والتكافل والتعاون، وكان العامل الأكبر في حفظ كيان الأمة الاجتماعي عبر القرون المتوالية رغم زوال الحضارة الإسلامية وانقضاء الخلافة، وانطلاقاً من هذا المفهوم فإن ثقافتنا كغيرها من الثقافات فيها من العناصر الإيجابية ما يدعو إلى دعمها والتمسك بها وترويجها.

لقد تناولنا فيما سبق معوقات ثقافية مثل: القيمة المركزية للسلطة وثقافة المكابرة والإنكار، وأضيف هنا معوقين ثقافيين هما من جملة الأوهام الحاكمة للثقافة، علينا تجاوزهما في عصر الربيع العربي الساعي إلى تجاوز معوقات النهوض، ولا تجاوز إلا بالتغيير الثقافي، أولاً:

1- وهم الماضي الزاهر: التصور السائد لدى القطاع الأكبر في مجتمعاتنا أن الماضي كان مجيداً مشرقاً، وأفضل وأسعد من حاضرنا، ولعل هذا الوهم المزمن هو ما يدفع الحركات الإسلامية لأن تجاهد لاستعادة حلم الخلافة أملاً في استعادة الماضي الجميل! وهي في سبيل ذلك تناهض الأنظمة السياسية القائمة، وتثير الاضطرابات ضدها، وتزرع الكراهية في نفوس الجماهير تجاهها.

كيف تشربت النفسية العربية هذا الوهم؟! وكيف هيمن على الخيال العربي؟! لقد تم ذلك بأسلوبين: الأول: عبر المنهج الانتقائي في تدريس التاريخ كما يقدم ضمن المقررات المدرسية، حيث يتم التركيز على "اللحظات المضيئة" وحدها في تاريخنا مع تغييب ألف عام من المظالم والقهر والصراعات الدموية على السلطة، وقمع المعارضين والفتن الطائفية والمذهبية وإذلال الشعوب الأخرى، علماً أن نظرة موضوعية فاحصة للتاريخ العام تؤكد أن هذه اللحظات المضيئة إنما تشكل استثناءات في مجرى التاريخ العام وتحتل المساحة الأقل فيه.

فنحشو ذهن الطالب بالمآثر والأمجاد وبطولات صلاح الدين وانتصاراته، ونغيب الوجه الآخر غير المضيء من حكمه، ونلقنه مقولة الرشيد للغمامة "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك" فخراً بعظم الإمبراطورية الإسلامية، ولا نذكر شيئاً عن كم الدماء التي أسيلت من الشعوب الأخرى حتى يأتي هذا الخراج! ولا كيف كان هذا الخليفة ينفقه من غير حسيب ولا رقيب تحت زعم أنه يغزو عاماً ويحج عاما!

يمر التاريخ المدرسي على مذبحة آل الرسول، رضوان الله تعالى عليهم، مرور الكرام، ولا تهتز لهم شعرة لهول الفاجعة! ولا نستقبح جرأة الأمويين على ما لم يتجرأ عليه عرب الجاهلية، في قصفهم الكعبة المشرفة بالمنجنيق، وصلبهم ابن الزبير واستباحتهم المدينة! فظائع الحجاج نلتمس لها عذراً، واضطهاد الأئمة الأربعة أمر مكتوب، وانتقام العباسيين من الأمويين بوحشية أمر يحصل مثله عند كل الأمم!

الأسلوب الثاني: عبر المدونات الدينية، إذ إن كتبا وخطبا وبرامج دينية همها إبراز الهوامش المشرقة وحدها في تاريخنا، وكأنه تاريخ منزه لا تاريخ بشر لهم طموحاتهم وأطماعهم فيصيبون ويخطئون!

وقد أفرز هذا الوهم الكبير جملة من النتائج الخطيرة منها: عقلية ماضوية ترى مستقبلها في ماضيها، وتلتمس منه حلولاً لقضاياها اليوم، وهذا ما يجسده إدمان مجتمعاتنا على الفتاوى في كل صغيرة وكبيرة من أمرها، انقياداً للشيخ وظناً أنه يملك الحلول، واتكالاً عليه وهروباً من المسؤولية، وتعطيلاً للعقل الفاحص، مع أن رسولنا عليه الصلاة والسلام خاطب المسلمين "أنتم أعلم بأمور دنياكم" أي أعلم من الشيخ فيها، وجعل من ضمير المسلم مفتياً "استفت قلبك"، ومنها أيضاً عدم القدرة على الإفادة من تجارب الماضي لتحصين المجتمع ضد تكرار الأخطاء.

وإضافة إلى ذلك إضعاف مناعة المجتمع الثقافية في مواجهة آفات الماضي: الاستبداد، التعصب، التطرف، عدم قبول الآخر، فانبعثت من جديد أشد غلواً وفتكاً، كما أفرز المنهج الانتقائي طلاباً غير متصالحين مع مجتمعاتهم وعصرهم، يعيدون إنتاج موروثات الماضي في صراعات طائفية وعصبيات قبلية وتفجيرات دموية.

2- وهم أفضلية الرجل على المرأة: وهو وهم مستحكم وراسخ في العقلية الجمعية، إذ مازال الرأي العام يؤمن بأفضلية الرجل وأعلوية مكانته، ومازال قطاع كبير يعتقد أن المرأة لا تفلح إلا في مهمتين: إمتاع الرجل وتربية أولاده! وهو وهم تسرب من ثقافة الجاهلية، إذ كان الجاهليون محكومين بنمط إنتاجي يقوم على الغارات والغنيمة كمورد معيشي والمرأة لا تحسن الكر والفر، فلا تأتي بالغنائم، فكان عليها القبول بالمكانة الأدنى.

وعندما جاء الإسلام العظيم كان الرسول- عليه الصلاة والسلام- خير ناصر للمرأة، فحظيت بمكانة عالية، وبتوالي القرون عادت مواريث الجاهلية التي كانت حية في الأعماق لتشكل نظرة المجتمع للمرأة، ولتهمش مكانتها في المجتمع؛ حتى إذا وصلنا إلى نهاية القرن الخامس الهجري عصر الضعف الحضاري وجدنا إماماً عظيماً، أبوحامد الغزالي، يقول في كتابه: إحياء علوم الدين، إن للمرأة 10 عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، وإذا ماتت ستر القبر العورات الباقية.

وهو يبلور النظرة المجتمعية للمرأة في وصاياه الذهبية فيقول: على الزوج ألا يشاور الزوجة، فإذا فعل، عمل بخلافها لأن خلافهن بركة! ويحذر الرجل من كيد النساء، فهو كيد عظيم، كما يحذره من إكرامها لأنك إذا أكرمتها أهانتك وإذا أهنتها أكرمتك! ومازال هذا المفهوم سائداً عند البعض في مجتمعاتنا، والإمام يعلل ذلك: بسبب اعوجاج طبعها وركاكة عقلها، وهو في ذلك يعمم الحكم على جميع النساء، ولا يستثني إلا استثناء الغراب الأعصم بين مئة غراب.

هذه النظرة المظلمة هي التي شكلت الإطار المرجعي للقرون التالية إلى يومنا لتعاليم الإسلام السامية، وحكمت الأفق الثقافي للمجتمعات العربية حتى إذا وصلنا إلى القرن الثامن الهجري وجدنا إماماً كبيراً كالذهبي في كتابه "الكبائر"، يزيد صورة المرأة قتامة، وللإنصاف التاريخي فهذه الصورة المظلمة المنتقصة للمرأة، شارك في إنتاجها وتدويرها وتداولها جميع أهل الفكر والثقافة والأدب، ولم تقتصر على الفقهاء.

وقد انتقل هذا الموروث الثقافي المشوة إلى ثقافتنا المجتمعية لتعكسه مناهجنا وإعلامنا ومنابرنا، وعلى الرغم من كل الجهود الإصلاحية على مستوى السلطة والمثقفين والعلماء المستنيرين فإن النظرة المجتمعية مازالت حبيسة ثقافتها، ومازالت العقلية العربية ترى فرض الوصاية على المرأة إما خوفاً منها وإما خوفا عليها.

ومازالت التشريعات العربية بما فيها تشريعات الأسرة، تغلب مكانة الرجل على المرأة، وتعلي من حقوقه على حقوقها، فالرجل يطلق المرأة بكلمة مازحة لنزوة عابرة، والمرأة إذا ضاقت بها الحياة الزوجية عانت الأمرين في سبيل تخليص نفسها من السجن الزوجي!

ولو أجريت استفتاء عاماً في قضية تخص المرأة لوجدت الأغلبية في غير صفها، ومازالت الثقافة المجتمعية تستنكر إعطاءها حق نقل جنسيتها لأولادها إذا تزوجت من غير المواطن.

* كاتب قطري