درويش الشاعر أم الإنسان
لم يكن مسلسل الشاعر الكبير محمود درويش ليثير هذه الضجة التي أثارها لو أن الشاعر قد رحل منذ فترة طويلة. ولكن الموت القريب والروح الحاضرة بين محبي الشاعر وأصدقائه ونقاده جعلا الجميع يرى أن العمل ليس بحجم مكانة الشاعر، ولأن العمل لم ينته بعد وحكمنا على الحلقات الأولى يجعلنا غير منصفين بحق العمل والقائمين عليه، وذلك ليس دفاعاً عنهم وإنما بدهية نقدية تشبه أن يقرأ الناقد بضع صفحات من الرواية أو الديوان ثم يخرج بحكم غير منطقي عن العمل. وما ينطبق على الكتاب ينطبق على المسلسل بلا شك. وربما بحكم الحس النقدي الذي يمتلكه البعض توقعوا أن يخرج العمل هشاً ضعيفاً حتى وإن أخرجه نجدت أنزور.العمل التلفزيوني ليس هو الهدف من المقال، وإن كان سبباً فيه. ففي قناعتي الشخصية فشل المسلسل الأول كان باختيار بطله فراس إبراهيم لنفسه لأنه منتج العمل وهي ميزة منحته بجدارة تجسيد الدور حتى لو لم يكن مقنعاً لنجدت أنزور نفسه. فراس إبراهيم ومن خلال الأعمال التي شاهدتها له سابقاً ليس ذلك الممثل القدير ليمثل شاعراً بحجم درويش. فهو ودونما هجوم عليه فنان محدود الموهبة لم يترك في ما سبق عملا يشار إليه كعلامة فارقة في سيرته الدرامية. ولو اكتفى بدور المنتج واختار ممثلاً جديراً بالدور لصفقنا له واحترمناه.
على أية حال الإشكال دائما في تصوير الحياة الشخصية لعلم من أعلام السياسة أو الفكر أو الأدب وهنا تواجهنا عقبة الشخصية البيضاء التي يراد لها أن تنطبع في أذهاننا عن سيرة المجسد دراميا أو كتابيا. أتذكر قبل سنوات كنا ندرس رواية "بينما أنا محتضرة" للكاتب الأميركي الكبير وليام فولكنر وفي بداية النقاش تناول الأستاذ المحاضر سيرة الكاتب الشخصية والتي انتهت عام 1959 أثناء سقوطه عن ظهر جواد فأصيب بجروح خطيرة مات على إثرها بسكتة قلبية عام 1962. هذه التركيبة عن وفاته والتي يسطرها الكتاب الذي يقرأ منه الأستاذ سيرة الكاتب بدت لنا مربكة. فوضع الأستاذ الكتاب جانبا، وربما كان يفعل ذلك كلما حاضر عن فولكنر، وقال سأقول لكم ما ليس في الكتاب. كان فولكنر شديد التعلق بالنساء وتنوعت علاقاته النسوية حتى بلغ عمراً لم يعد معه قادرا على إغراء امرأة فأخذ يتحرش بفتيات صغيرات السن ولم يكن له منهن ما يريد فامتطى جواداً وهو مخمور وسقط عنه ومات نتيجة تهتك الأنسجة.وليكن نحن نعشق فولكنر الكاتب، أما فولكنر الإنسان فهي قضية الإنسان فولكنر وحده. ليس من الإنصاف أن نطلب منه أن يكون شخصية نقية منزهة لا تعرف الخطأ الآدمي لمجرد أنه كاتب كبير تأثر به أجيال من الكتاب وعلى رأسهم ماركيز. لو أن الكتاب الذي قرأ منه الأستاذ تحدث بذات الشفافية عن فولكنر لما استطاع أن يمس إبداعه وفنه ورأينا بإبداعه وفنه.نعود إلى شاعرنا الكبير محمود درويش وهو بالتأكيد شخصية عاصرها رهط كبير من الشعراء والنقاد والأصدقاء، ونقل لنا عنه الكثير من شخصيته، ولكن هل يجرؤ عملنا عنه أن يتحدث عن سيرته الشخصية كما هي؟ إذا كان شعره هو أساس العمل فبإمكان فيلم أو مسلسل وثائقي عنه أن يؤدي الغرض بكفاءة عالية دون الحاجة إلى تجني فراس إبراهيم على الشعر. ومتاهة أي عمل سيرة هي اختلاط السيرة الشخصية بفن صاحبها حتى يبدو الخيط بينهما رفيعاً لدرجة الغموض.