كراكيب
لكل منّا علاقاته النفسية مع ما يحيط به من أشياء وأغراض مادية. وعلاقة الارتباط بالأشياء قد تتفاوت بين الحالة الطبيعية المقبولة، وبين التعلق المرضي بالمقتنيات والخوف من التخلي عن أي شيء صغر أو كبر، وتفضيل العيش بين أكوام من الكراكيب والنفايات التي فقدت جدواها ونفعها. ولكل منّا، كذلك، عاداته في التعامل مع هذا الكم من المتعلقات الشخصية الحميمة، التي عشنا معها ردحاً من الزمن والعِشرة الطيبة، ثم ها نحن أولاء نقلبها بالأيدي ونرمقها بنظرات أخيرة متسائلين: ماذا سنفعل بها؟!
والكراكيب تتفاوت في نوعها وحجمها وقيمتها، الأمر الذي يزيد من التردد والحيرة حول مصيرها ومثواها الأخير. فقد تكون هذه الكراكيب أثاثاً أو ملابس، أو تحفاً وصوراً وعاديات، أو كتباً وأوراقاٌ وملفات، أو حتى أواني مطبخ وكهربائيات أصابها القدم والعطب. ولذلك فالجرد السنوي لهذه الكراكيب يبدو أمراً لا مفرّ منه. أسهل الأمور بالنسبة لي – نفسياً – هو التخلي عن الأثاث غير المرغوب فيه، لأنه في لحظة ما يزداد الشعور باحتلاله الجائر لمساحات من الفضاء. وإزالته عن تلك المساحات يخفف من عبء الجدران النفسية ويتيح فضاءات لبدائل أخرى تتناسب مع المزاج المتطلّع للتغيير والتجدد. وذات السهولة في التخلي عن الأشياء ينطبق على أدوات المطبخ والأجهزة الكهربائية. بيد أن الصعوبة تبدأ عند جرد الملابس والتحف والإكسسوارات المنزلية. ومسألة التخلي عن الملابس غالباً ما يشوبها الكثير من التردد عند غالبية النساء. فأغلب ما يُستغنى عنه يكون عادة قابلاً للاستعمال لجدته أو رونقه، ولكنه أصبح خارج الزمن النفسي، وخارج التضاريس الجسدية المتغيرة للمرأة خاصة. وعبثاً تحاول الواحدة منا أن تعيد تجريب وقياس الجاكيتات الفاخرة والتنانير والبنطلونات الأنيقة مرة بعد مرة، لتكتشف أن هذه الملابس لم تعد فاخرة ولا أنيقة، إلا على امرأة أخرى ربما! أما التحف والتذكارات والهدايا فالتخلي عنها يمرّ بذات الصعوبة والتردد، بسبب ارتباطها بالذكريات والأمكنة الغابرة والأشخاص. وتكديسها أو تخزينها يشكل مشكلة أخرى وربما عبئاً على الآخرين من أفراد الأسرة أو الأبناء ممن لا يدركون قيمتها المعنوية. ولكن الصعوبة الأكبر في اعتقادي تكمن في التخلي عن الكتب والأوراق الخاصة وملفات العمل. ولعلنا جميعاً مررنا بذلك الشعور بالقلق والتردد ونحن إزاء أكوام من الكراكيب الورقية: صحف قديمة، مجلات فاخرة، كتب دراسية قيّمة وقصص مصورة انتهى الأبناء منها بانتهاء سنوات دراستهم وطفولتهم، وكتب أخرى هزيلة وصلت إليك من حيث لا تعلم، أوراق وفواتير وقصاصات وكتيبات انتهت أعمارها الافتراضية، ملفات ومسودات ومشاريع كتابية استهلكتْ عصارة فكرك ونور عينيك! وها أنت تسلمها أخيراً للمصير المحتوم، وتوسدها في (كراتين) لتنتهي إلى حاوية النفايات! ونحن في مقام الحديث عن التخلص مما يثقلنا من أوراق خاصة، يحضرني ما يُشاع دائماً عن قيام بعض المؤلفين والأدباء بحرق كتبهم وأوراقهم، وما يتبع تلك الإشاعة من أسف وتحسّر في غير محله! وأعتقد أن هذه الإشاعات مبالغ فيها، وأن ما يُحرق ليس سوى الأعمال التجريبية والكتابات غير الناضجة التي يرى مؤلفها ضرورة التخلص منها لأنها كراكيب لا تستحق النشر. ولذلك أرى أن ما يفعله أقارب وأصدقاء أي أديب أو شاعر قضى نحبه، من محاولات النبش والتفتيش في أوراقه غير المكتملة أو غير المعدة للنشر هو من قبيل الخيانة للميت وعمل غير أخلاقي. يقول العارفون إن التخلص من الكراكيب يشيع جواً من الارتياح، ويستجلب الطاقة الإيجابية، ويفتح نوافذ النفس على الهواء والضياء. فلا يسعك إذن بعد الجرد السنوي المرهق، إلا أن تتنهد بارتياح، بعد أن أخليت فضاءك المكاني، فأصبحتَ أكثر خفة ونظافة وشفافية. ولكن ألا ترون أنه إلى جانب التخلي عن الكراكيب المادية ، نحتاج بالمثل إلى التخلص من كراكيبنا القلبية والروحية، والتهيؤ للتجرد من أدرانها وأوشابها؟ ... ثم إيداعها جميعاً في (كراتين) تبحر نحو البحر.