للمعارك الأدبية نتائج متفاوتة في القيمة والأثر، فرغم أنها تنعش المشهد الأدبي وتروّج للأعمال الإبداعية، فإنها تترك في النفوس ضغائن وإحناً لا تمحوها الأيام!

Ad

وأعتقد أن مسألة المعارك الأدبية ليست من مستحدثات العصر، وإنما يمتدّ زمنها منذ عهد "سوق عكاظ"، حين كان الشعراء يتنافسون على إرضاء ذائقة النقاد والمحكمين، ويؤوب الخاسر منهم وهو يتميّز من الغيظ. مروراً بما كان يحدث في بلاط سيف الدولة من معارك دائرة بين المتنبي وخصومه، وكيف كانت النفوس تقدح بشرر الحقد والضغينة، فيعاجلهم أبوالطيّب بمقولته:

سيعلمُ الجمعُ ممن ضمّ مجلسنا    بأنني خير من تسعى به قدمُ

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي        وأسمعت كلماتي من به صممُ

كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم       ويكره الله ما تأتون والكرمُ

إلى آخر ما يستعين به المتنبي من بلاغة الدمار الشامل دفاعا عن منزلته الأدبية التي ينافحه عليها الشعراء، فتتأجج الإحن ويقدح أوار المعركة. ويبدو للمتأمل في فحوى تلك الصدامات، أن المشتغل بصناعة الشعر والأدب ينطوي على إحساس عارم بسرّ كينونته النادرة، وبامتلاكه لقيمة نفسية وعقلية تضارع قيمة الشرف والعِرض، فيحلو حينها الدفاع عن حياضها حتى آخر كلمة!

أما في العصر الحديث، فقد دشن العقاد والمازني جملة من المعارك الأدبية والنقدية ضد أحمد شوقي، ثم غيرا اتجاه المدفع نحو صديقهما الأثير عبدالرحمن شكري! إذ يبدو أن المسكين بدأ يشكّل عامل سبق ومنافسة، الأمر الذي يقضي بضرورة الإجهاز عليه! وهذا ما كان! وشهدت ذات الفترة الزمنية معارك مماثلة، وجه فيها طه حسين سهام نقده اللاذع نحو إبراهيم ناجي والمنفلوطي، وكان لها ما لها من آثار نفسية بليغة على الشاعر والناثر.

وفي أيامنا هذه نشهد وجوهاً أخرى للتنافس غير الشريف، منها الترويج لإشاعات مغرضة لا نعرف مدى صدقها أو كذبها. كالقول بأن فلاناً لا يَكتب وإنما يُكتب له، أو أن فلاناً يَكتب لفلانة. وعادة ما تصيب هذه التهمة الأديبات من النساء خاصة، كإشاعة كتابة سعدي يوسف لأحلام مستغانمي روايتها (ذاكرة الجسد)، الأمر الذي أعتبره من ضمن المعارك القميئة التي تهدف إلى النيل من الخصوم من وراء ستار! وإذا كانت المعارك في عهد العقاد وطه حسين والمنفلوطي تدور سجالاً في الهواء الطلق وبين فريقين ظاهرين للعيان، ولكلٍ رأيه ورؤيته وأدلته العلمية، فإن معارك اليوم هي من قبيل الغدر بالخصوم غيلة، وبلا شرف للخصومة أو للفعل.

وبين هذا اللون من الخصومات الأدبية وتلك، يتراءى لون ثالث أشدّ تأثيراً من سابقيه، وأعني به مسألة التحجيم والإقصاء التي يكون ضحيتها الكثير من الموهوبين والنابهين الذين يعيشون غالباً في الظل والإهمال رغماً عنهم. وعادة ما يكون هؤلاء بعيدين عن الأضواء، لا يكادون يبينون تواضعاً أو استحياءً، بينما تلوب في الساحة ثلة من "النمور" و"الفهود" متأهبة للانقضاض على ما يلوح من ظلالهم المتلامحة! هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المشهد الحالي يتطلب المدافعة والمنافحة والإلحاح، ويتطلب الدخول في معارك جانبية قميئة آخر أسلحتها الجودة والتميّز! ناهيك عن ضرورة تسويق النتاج الأدبي من خلال القرب من "الشلة"، أو السعي إلى العلاقات المباشرة مع المهتمين والنقاد وأصحاب الأقلام. أما من ألف التعفف والانزواء والبعد عن دائرة الضوء والتلكؤ إزاء الدعوات العامة ومنابر الإعلام، فليس له إلا أن يُدفن حياً.

لقد انتهى عهد الباحثين والنقاد الذين يجدّون في البحث عن الموهوبين والمتميزين، وجاء عهد أشباه المتأدبين وأنصاف المتشاعرين الذين يهرولون وراء من يلمعهم ويظهر ابتساماتهم أكثر بياضاً. وأعتقد أن هذه الصورة المفبركة للمشهد الأدبي ما هي إلا لون من المعارك الأدبية الأشد سواداً وقتامة.