إنسانٌ شرقيّ في العالم الغربي. يسعى إلى التطبع أولاً، والانتفاع ما استطاع ثانياً من فورة الحياة الغنية التي تحيط به. تتسع مكتبته فتغطي الجدران. جهازه الموسيقي لا يخذله، وعلى الشاشة يتتبع، حين ينتهي من الأخبار التي تعنيه، عروضَ الأوبرا، والأفلام، ودوراتِ الدرس في حقول المعرفة التي لا تُحد. ركن الرسم في مطبخه المُضاء كامل الاستعداد للاستجابة، إذا ما رغب. كلُّ شيء يتحقق بيسرٍ في حقل الانتفاع. ولكن ما من شيء يتحقق باليسر ذاته في حقل التطبّع. فهناك محطات بين حلقات نشاطه، تنتصب كاليتيم في العيد فجأة. تنتصب عاجزة عن تحقيق حضورها الحقيقي، فتسعى إلى أداء دور تمثيلي تطفو متعتُه على السطح، طفوَ الزيت في الماء. إنه يكتشف أن هذه المحطات، بالرغم من عجزها عن التحقّق، صلبةٌ كعصا لا تلين. إنها محطاتُ التوق إلى الشرقي فيه. إلى الاستراحة داخل ذاكرته. إلى رائحة العائلة التي تقبل عليه في هيئة عادات وأعياد. إلى ظلّ أشجار التوت في الظهيرة. فهو، بالرغم من عدم ميله للشاي، إلا أنه يُعد الشاي كل صباح، وبأقصى ما يستدعيه «تخديرُ» الشاي البغدادي من أصول. والصباحات الشتائية بصورة خاصة. لأن برد الشتاء الرطب هنا يُحوجه إلى مزيد من تكثيف الحميمية المُفتقدة. الألفةُ العائلية الغائبة. رائحةُ الشاي ورائحة الخبز لا تكاد تفارق شِعره. وهي رائحة مُستلةٌ من الذاكرة، لا من الواقع. من رغبة التطبّع، لا من رغبة الانتفاع. حين يضع الشاي في «الاستكان» الزجاجي الصغير، يحاول أن يجعلَ عبثَ الملعقة داخله ذا رنين يسمعه الجيران. لأنه بذلك يحقق حضوراً لبيته القديم، ولمقهاه. لا لشخصه وحده. وإذا ما أعدَّ الغداءَ خاصة، فهو يحرص على وضع قطعة الخبز الدافئة، حتى لو لم يأكلها، إلى جانب صحنيْ الرز والمرق. تماماً كما كانت تفعل أمه، حين كانت تُعد الغداء لأبيه، أو له. هنا، وفي أحيان مدهشة، تفاجئه رائحة أمه أو أبيه، تصحبُ رائحةَ الرزّ إلى خياشيمه. فيشعر بالعزاء. ولأنه لم يبع وقتَه في وظيفة أو عمل منظم، وليس له بالتالي من عودةٍ متعَبة يراها في وجوه الموظفين والعاملين، عند عودتهم مع مطلع الليل إلى بيوتهم، ولأنه يتذكر هذه الصورة المألوفة في ذاكرته، يُمنّي النفس هو الآخر بعودة كهذه مُتخيَّلة. لأن مذاق العشاء دونها يبدو للسانه ولروحه ماسخاً. ولكن هيهات من تحقيق ذلك. حينها يكتفي بارتداء دشداشته، وقد طوى إحدى ساقيه (اليسرى عادةً) تحت مؤخرته، وجلس مع استكان الشاي، يتأمل حديقة البيت.

Ad

حين يسمع برمضان يدخل لندن غير مُتنكّر، يسعى بمفرده للاحتفال به. وعلى طريقته الخاصة دون شك. يُمنّي النفسَ بدعوة تأتيه من عائلة مجاورة، عربية أو غير عربية، ليجلس شأن الصائمين، ويبدأ معهم بالتمرة واللبن. ثم بشوربة العدس، التي كانت أمه تحرص على تطريزها بالبصل المقلي حدَّ الاحتراق. ولكن هيهات من تحقق ذلك. ولو حاول مجاراةَ الصائمين بتجهيز التمرة واللبن، وشوربة العدس مع بصلها المقلي، فمعَ منْ سيُشرك قلبَه وعقلَه ولسانَه ومعدته؟ وإفطار رمضان شعيرة جماعية، لا قيمة لعزلة الفرد فيها. حينها يقرر مع صحبة طيبة الذهابَ إلى Edgware Road. هناك يتزاحم العرب، والمطاعم العربية، والمقاهي العربية. وهناك يحسُّ، كما تُحس البشرة الجافة بالنسيم العذب الرطب، أطرافَ وشاح رمضان المزخرف، الملوّن، تمس أطراف ثيابه حيث يذهب، فتبعث فيه أريحيةً. ولو أنه انفرد بجمهور العرب، ومطاعمهم، ومقاهيهم دون رمضان، لما انتابته هذه الأريحية. لأن وِشاحَ رمضان بالغُ الرقةِ في تقديمهم إليك. ثم إنه يقدمهم إليك جماعةً لا أفراداً. فيحجب عنك، بذلك، كل درَنِ السوقية، والغرائزية المبتذلة، والتبذير المُسفّ.

في الآخر ينتخب مطعماً عراقياً يتزاحم بالصائمين أزواجاً، زوجاتٍ وأطفالاً. ومع صحبته الطيبة ينتخب مقعدين، فتأتيه في الساعة الموعودة التمرةُ واللبن، ثم شوربةُ العدس بالرائحة المعهودة. يقول لصاحبته التي لم تسمعه بفعل الصخب: «هلْ شممتِ الرائحة؟» «أية رائحة؟» تسأل. «رائحة أمي!».