ثمة توقعات بشأن السياسة الروسية بعد فوز بوتين، ونعتقد أن "الخيار الطبيعي" أمامها الانضمام للاتحاد الأوروبي ولو بعد حين.

Ad

فهل انضمام روسيا إلى أوروبا "تخريف من التخاريف" أم احتمال من احتمالات التاريخ؟

لانعتقد أن هذا الاحتمال التاريخي مجرد "تخريف"، فالمعطيات الموضوعية كلها تصب لناحية حدوثه ولكن ثمة "معوقات" ذاتية تتعلق بالزعامة. فالمعروف أن "القيادة" في الاتحاد الأوروبي ثلاثية: بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا.

ولكن روسيا، إذا انضمت، لا يمكن أن ترضى بغير الزعامة، فهي كمصر بالنسبة إلى الوحدة العربية، أي وحدة عربية تدخلها مصر لا يمكن لأي بلد عربي آخر منافستها فيها.

وربما كان لدى الأوروبيين "تحفظات" بالنسبة إلى دخول تركيا المسلمة بملايينها الثمانين، ولكن روسيا بلد غربي أوروبي بكل المقاييس. و"موسكو" عاصمتها، مدينة أوروبية بامتياز، فهي ليست آسيوية أو شرقية.

ومنذ بطرس الأكبر وروسيا تطمح لأن تصبح قطعة من أوروبا، كما حلم بذلك الخديوي إسماعيل- وتبعه بعد عقود طه حسين- لجعل مصر "قطعة من أوروبا".

وإذا كانت مصر بموقعها وثقافتها ليست مجرد قطعة من أوروبا، فإن روسيا، بحكم الجغرافيا والتاريخ والثقافة "قطعة من أوروبا"! وعلينا ألا ننسى أن "الماركسية"- الإيديولوجية التي تبنتها روسيا لسبعين عاماً تحت مظلة الاتحاد السوفياتي كانت إيديولوجية ألمانية، أي أوروبية، في الأصل. وعندما بحثت الصين عن فكرة حديثة في الغرب، معادية له، وجدت ضالتها في الماركسية! وربما أحست روسيا بذلك، وهي ليست على كل حال معادية للحضارة الأوروبية، بل جزء منها... غير أن المواقف السياسية للمصلحة القومية العليا ربما تطلبت توجهات مغايرة.

وقد وجدت القيادة الألمانية إبان الحرب العالمية الأولى أن من مصلحة ألمانية "تسهيل" خروج لينين من منفاه الألماني وعودته إلى روسيا، للإطاحة بالقيصر الروسي الذي كان يقاتل القيصر الألماني!

وقد نجحت "الخطة الألمانية"... فبمجرد الإطاحة بالقيصر الروسي وقيام الاتحاد السوفياتي أعلن لينين الانسحاب من الحرب باعتبار أن "دولة العمال والفلاحين" ليست لها مصلحة في هذه الحرب "الإمبريالية" الجارية، وكان الانسحاب الروسي تحت شعار (خطوتان إلى الوراء، وخطوة إلى الأمام)... ولكي يتفرغ الروس ومنهم شعوب الاتحاد السوفياتي الفتي لقراءة كتاب لينين: "الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية"!!

ولسنا هنا بصدد رصد التطورات التاريخية في الاتحاد السوفياتي ولكننا نعتقد أن "انهياره" لم يكن "انهياراً" بالمعنى الحرفي للكلمة ولكنه قرار روسي في منتهى الوعي وتفكيكه والتخلص من التركة "الاستعمارية" الروسية التي لم تكن بادية للعيان بحكم التجاور الجغرافي بين روسيا الأوروبية الغربية و"مستعمراتها" في وسط آسيا، وكذلك- بعد الحرب العالمية الثانية- في شرق أوروبا التي كانت تهيمن عليها كهيمنة "إمبريالية" لا تختلف عن الهيمنة الأميركية على أوروبا الغربية، مع فارق أن أميركا لم تكن تمانع في ممارسة دول أوروبا الغربية للديمقراطية، بينما روسيا كانت "دباباتها" بالمرصاد لأي انتفاضة ديمقراطية شعبية تختلف عن المواقف الروسية في المجال الدولي.

كانت روسيا "تصرف" على مستعمراتها تلك في آسيا الوسطى وشرق أوروبا لاعتبارات الإيديولوجيا الماركسية، وكان المسلمون من آسيا الوسطى يدخلون الجيش السوفياتي للاعتبارات ذاتها. وأحست موسكو أنها يجب أن "تتخلص" من العبئين: الاقتصادي والإسلامي! وليست مصادفة أن روسيا تخلت عن تحمل تلك الأعباء- في الوقت ذاته الذي تخلت فيه عن الالتزام بالماركسية- مما يدعم التفسير القائل إن روسيا تعمدت تصفية تركتها "الاستعمارية" التي كانت تحتفظ بها في ظل "الماركسية"!

ويلاحظ أن ألمانيا وفرنسا- لظروف موضوعية- أقرب إلى روسيا منهما إلى أميركا، بينما بريطانيا- لظروف وأسباب موضوعية أيضاً- أقرب إلى أميركا.

ولدى روسيا صلات "تفاوضية" مع حلف الأطلسي، والسياسة عرضة لمتغيرات كثيرة، وكما غيرت روسيا مواقفها بعد "انهيار" الاتحاد السوفياتي- الذي مازال يحن إليه الشيوعيون الروس- فإنها يمكن أن تغير سياستها بعد الانضمام للاتحاد الأوروبي، وربما مثل هذا الانضمام أهم حدث دولي في القرن الحادي والعشرين مثلما كان "انهيار" الاتحاد السوفياتي أهم حدث في القرن العشرين!

وإضافة إلى الأصل الأوروبي الغربي لروسيا في التجليات التي مررنا بها، فإن روسيا تتصل بأوروبا عن طريق الاقتصاد. فهي تبيع نفطها وغازها إلى أوروبا المتعطشة للطاقة، ومعظم مشاريع النفط والغاز الروسية، من "السيل" الجنوبي إلى الشمالي موجهة نحو أوروبا، وهذا يربط روسيا المستقبل بأوروبا، عن طريق الاقتصاد، أهم رابط في عالمنا.

ولكن "المشكلة" في اندماج روسيا بالاتحاد الأوروبي تكمن في حجمها، فكيف يمكن للاتحاد الأوروبي، على ضخامته، أن يستوعب بلداً في ضخامة روسيا؟!

وإن كانت العوامل المختلفة تدفع باتجاه التقارب، إن لم نقل الوحدة بين الجانبين! ثم إن "الاتحاد الأوروبي" عملاق اقتصادي، لكنه قزم عسكري لولا مشاركته في حلف الأطلسي، ولكن هل هذا الحلف سيدوم؟ خصوصاً إذا تضاءلت القوة الأميركية التي تدعمه.

إن انضمام روسيا، بقوتها العسكرية، إلى الاتحاد الأوروبي هو الوسيلة الوحيدة لأن يصبح هذا الاتحاد عملاقاً عسكرياً وسياسياً إلى جانب كونه عملاقاً اقتصادياً.

لقد حملت لنا الأنباء القادمة من روسيا، أن الرئيس بوتين، وهو يعد لحملته الانتخابية المثيرة للجدل، قرر منح الأقطار الأوروبية المتعثرة في اقتصاداتها مساعدة روسية، فما الهدف من هذا القرار؟

صحيح أن لروسيا امتدادات شرقية آسيوية تصل إلى حدود الصين، فضلاً عن هيمنة موسكو على جزر يابانية، وليس واضحاً كيف سينظر الأوروبيون إلى مجاورتهم لهاتين القوتين الآسيويتين الصاعدتين، عن طريق روسيا، إذا انضمت إليهم، كما أنه من غير الواضح شعور الأوروبيين والروس معاً، حيال انضمام روسيا إلى الاتحاد الأوروبي. هذه مسألة جديرة بالتحقق والمتابعة.

بعد أن يتسلم الرئيس بوتين قيادة روسيا من جديد، ثمة حديث عن دور روسي عالمي ستلعبه موسكو حيال الولايات المتحدة بما يتجاوز أوروبا.

هذا توجه سياسي مؤقت، هل يمكن أن يضاد المعطيات الموضوعية التي تربط روسيا بأوروبا؟!

وأخيراً هل ستنضم روسيا إلى أصلها الأوروبي. نعم لا بد أن تنضم، ولو بعد "عمر طويل"... "ولله الأمر من قبل ومن بعد" كما كان يردد شيخنا ابن خلدون في "المقدمة" كلما واجه شأناً من شؤون التاريخ!

* مفكر وأكاديمي من البحرين