كان من الطبيعي أن تثور الشعوب العربية على أنظمتها الدكتاتورية، فهذه الأنظمة حولت بلدانها إلى إقطاعيات خاصة ببعض النخب التي سيطرت على مقدراتها وثرواتها ثم راحت تتقاسمها تقاسم الورثة فيما بينها، والشعوب الجائعة تتفرج بخوف وقهر لا حد لهما، فإن تجرأ أحد منهم وفتح فمه مستفهماً لا معترضاً حتى، وجد السجن مستقراً له حتى إشعار آخر... قد لا يأتي أبداً!

Ad

إنها حكمة التاريخ التي لا يريد أحد من الطغاة استيعابها "الضغط يولد الانفجار"، و"إن زاد الشيء عن حده انقلب ضده"، ولو "دامت لغيرك ما اتصلت إليك"، مسألة بسيطة، لكن، من يفهم ومن يستوعب؟!

قلت من الطبيعي، أن تثور الشعوب لتسترد حقوقها المسلوبة وتستعيد كرامتها المهدورة، ولترسم بعد ذلك مستقبلها بوعي وإدراك يحول دون تكرار أخطاء الماضي أو ابتكار أخطاء أكبر منها، لكن ما نشاهده اليوم أن الأمور في طريقها إلى الأسوأ لدرجة تجعل البعض يترحم على الأنظمة السابقة رغم سوئها، فالتخبط أصبح السمة السائدة لقرارات من تولوا زمام الأمور بعد الثورات، يخرجون من مأزق ليدخلوا في مأزق آخر، وقد تاهت بوصلتهم واحتاروا في كيفية النجاة بأقل قدر من الأضرار والخسائر في مرحلية مفصلية قد ترفع من مستوى الدولة على الصعد كافة أو تسير بها إلى الهاوية، والاحتمال الأخير هو الأقرب اليوم في مصر وتونس تحديداً رغم كم التضحيات التي بذلت من أجل غد أفضل لا يبدو أنه قادم في القريب العاجل!

كل الثورات "الحقيقية" عبر التاريخ أنتجت ثقافات إيجابية وسلبية، لكن التحول كان دائما للأفضل، نعم، قد يستغرق الأمر سنوات قبل أن يحدث التحول الكامل، لكن المؤشرات الإيجابية كانت تطل برأسها مبشرة على الدوام، وفي الثورات العربية لا يبدو أن هذا الأمر سيحدث لأسباب عدة، أولها أن الدافع الرئيس للثورات اختزل في التخلص من الطاغية والمقربين منه دون التخلص من الأفكار والقيم والأخلاق المجتمعية التي صنعت هذا الطاغية وقدمت له أدوات البطش والقمع والفساد بكل أنواعه من بطانة وقيادات فاسدة لا تزال تزاول أعمالها في قطاعات الدولة، وكأن شيئا لم يجر من حولها، فوضعها كما كان وأفضل وسط حالة التوهان التي تعيشها النخب الحاكمة الجديدة، والتي وجدت نفسها تواجه إرثا معتبرا من الفساد والمديونية والفقر والبطالة، يضاف الى كل ذلك ثقافة الاعتصامات والإضرابات المستمرة التي تتبعها المعارضة الجديدة على أهون سبب، الأمر الذي يعرقل مسيرة التنمية ويزيد نسب البطالة في ظل إغلاق العديد من المؤسسات التجارية التي كانت توفر فرص عمل للآلاف من العمال في مصر وتونس، إضافة إلى تأثيره في قطاع السياحة الحيوي الذي كان يوفر مداخيل كبيرة انحسرت بشكل كبير في ظل أجواء التوتر وعدم الاستقرار الذي توحي به مشاهد الاحتجاجات والمظاهرات المستمرة!

ومما يزيد الطين بلّة ولا يبشر بالخير ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات في هاتين الدولتين، ففوز "الإخوان" والسلف في مصر بشكل ساحق على التيار المدني والليبرالي، وكذلك فوز حزب "النهضة" الإسلامي في تونس، يعني أن الشعبين الشقيقين مقبلان على مرحلة صعبة لا يعلم نتائجها إلا الله، فالحريات في خطر والطائفية تطل برأسها، والاقتصاد في انخفاض والسياحة على وشك الموت، وعلى الأرجح سنرى تكراراً لتجربة الدولة الدينية الفاشلة كما حدث في السودان وإيران وأفغانستان، وكل هذا يتم باختيار الشعب وبمطلق إرادته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

على العموم، كل شعب ينال ما يستحقه من أنظمة، فالأنظمة تعكس دائما صورة الأفراد في المجتمع، وقد حدث تحول بلا شك في ذهنية المواطن العربي وعقله وسلوكه، فهو لم يعد يطيق تسلط الحاكم الفرد عليه، صار طموحه أكبر من ذلك، إنه يريد تسلط حزب بأكمله عليه، بتفويض إلهي مزعوم، ينال رضا الجميع وقبولهم!